رحيل الرجال المناضلين الذين بقوا كُتّاباً تغييريين
يقظان التقي
يرحلون كما يأتون جماعيا، رياض الترك في سوريا، كريم مروة في لبنان، يضاف إليهما رجل قانوني وموسوعة حكايات بعثية، هو المحامي البعلبكي غالب ياغي، يجمعهم العبور من زمن البدايات في الثلاثينيات وفي أعمار وهمم متساوية.
إنهم الرجال الذين بقوا تغييريين في زمن انخراط فئة اليسار بحروب مذهبية وشخصانية، وبقوا تقدميين / مستقلين في أفكارهم. التزموا حرية الفكرة قبل أن تكون انتماء حزبيا مقننا . عبروا أخيرا بكل هذا الالتزام الحرّ / المفتوح، وأقل انتماء إلى النظريات التوتاليتارية.
كانوا من الأوائل الذين خرجوا من بيئاتهم وعائلاتهم واتجاهاتها الذاتية واختاروا حرية التفكير وتعددية المجتمع وتقدمية البلاد . عندما كان ( مروة وياغي ) يلتقيان في ما تبقى من مكان مديني في بيروت، كانا يشاغلان الجميع بقصص وأخبار وحجج وحكم. كانا يثيران الانتباه بأدوار في السوسيولوجيا الحزبية والمتجددة، والمتحررة من مكوناتها الأساسية ومن بيئاتها وأحزابها وزعاماتها. وبتلك الحركات التي تتالت منذ الخمسينيات ومطالبها ومرجعياتها .
تكتشف أفكارا كبيرة في زمن موت الأفكار. مناضلون لم تنهكهم السنوات ولا السجون (رياض الترك)، ولا النزاعات والانقلابات. وأكملوا سنواتهم من دون تقاعد في الإنتاج الفكري وغزارته وبمساهمات فكرية / عقلانية/ سوسيولوجية. حرارة الحضور حتى النفس الأخير، وبوجوه بشوشة تتجاوز التقسيمات الجغرافية والقطرية والأيديولوجيات والمقاربات المختلفة بين الحزبين الشيوعي والبعثي والحركات الناصرية والقومية العربية .
نتذكرهم كظواهر على مستوى المسارات والأحداث وفي التعقيب عليها، تلك التي دارت ضمن كتل تاريخية سياسية مغلقة . قد يؤخذ على رياض الترك في الثورة السورية بعض النرجسية السياسية شديدة الذاتية ضمن تركيبة قيادات المعارضة السورية، وعلى كريم مروة البنائية النظرية، وغالب ياغي الماهية البعثية المشبعة باختبارات قاتمة .
كان طبيعيا أن يتنفس هؤلاء الأحداث وانعكاساتها على مجمل الواقع العربي، ويكون لكل واحد أن يبني رؤيته. لكن الواضح من ثوابتهم أنها لم تؤد إلى تنافر واسع . كأنما انخرطوا جميعا في حداثة على امتداد تسعين عاما، في ظل صدمة الحداثة في المجتمعات العربية، في ظل الأنظمة الانقلابية والاشتراكية البرجوازية والقومية والثورية، في أنظمة تظهر الظواهر السياسية .
رحل المفكر كريم مروة عن عمر 94 عاماً، عاش خلالها حياة صاخبة، وحتى آخر يوم في حياته، لم يتوقف عن الحراك ، لم تفارقه حيوية فكرة البحث والكتابة. لم تغب يوماً عن اهتماماته فكرة بناء الاشتراكية بخصوصياتها وتمايزاتها المحلية.
كتب الكثير من المقالات، وبلغت مؤلفاته 45 كتاباً إضافة إلى كتب تحت الطبع، وكان آخرها: «عباقرة الفكر والأدب والفن في روسيا من زمن القياصرة إلى العصر السوفياتي.
“كريم من رفاق فرج الله الحلو، والراحلين نقولا الشاوي ونديم عبد الصمد والشهيد جورج حاوي وغسان الرفاعي ونديم عبد الصمد وآخرين.
كان ممن قادوا فكرة عملية التحديث التاريخية في الحزب الشيوعي اللبناني في مؤتمره الثاني عام 1968، التي أسست لنهضة شعبية وطنية ولدور عربي فاعل للحزب، وصاحب حضور مفصلي مميز في الحياة السياسية اللبنانية في العقود التي تلت. وشكّل إطلاق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي في العام 1982 ذروة النهضة الشيوعية اللبنانية.
في كِتابَيْن صادرَيْن حديثاً عن الدار العربيّة للعلوم – ناشرون، تابع مروّة صوغ مشروعه التغييري الذي أثار- ولمّا يزل- الكثير من النقد، سواء من كادرات اليسار في لبنان والعالَم العربي، وتحديداً الحزب الشيوعي، أو من كادرات وشخصيّات فكريّة وثقافيّة وسياسيّة لبنانيّة وعربيّة من خارج اليسار والحزب كليهما، ولاسيّما أنّ ما ينطوي عليه هذا المشروع من أفكار وتطلّعات، هي بنظر كثيرين، لا تمتّ بصلة إلى الفكر الاشتراكي الذي ناضل الرجل من أجله أكثر من أربعين عاماً.
أبدى كريم مروّة، السياسيّ والمفكّر والقياديّ البارز في الحزب الشيوعي اللّبناني من العام 1952 وحتّى بدايات العام 1999، تاريخ انعقاد المؤتمر الثامن للحزب، وفي أكثر من مناسبة، حرصاً على تحرير مشاريع التغيير المرتبطة بالاشتراكيّة وبمثيلاتها من كلّ ما هو يقيني، وجعْلها مفتوحة دائماً على التحديث والتغيير والتجديد، وذلك منعاً لكلّ بيروقراطيّة تؤدّي إلى جعْل الأحزاب جزءاً من الواقع بدلا من أن تكون في تصدّيها للواقع عاملاً أساسيّاً في التغيير نحو الأفضل، فضلاً عن تحويل الماركسيّة إلى “عقيدة جامدة”، وقراءتها بكثيرٍ من الدوغمائيّة الأيديولوجية.
ربّما كان هذا الإصرار الذي لا ينضب على التغيير هو من الميزات التي تُحسب للرجل الاستطرادي ، سواء أصاب أو أخطأ ، والإفادة من دروس التجربة التاريخيّة للحركة الاشتراكيّة .
رياض الترك شيخ المعارضين السوريين، اليساري الصلب، رحل عن 94 عاماً، وهو اعتقل لنحو عشرين عاماً لانتقاداته المتواصلة لسياسات نظام البعث الديكتاتوري. وبسبب معاناته الطويلة داخل معتقلات حكم الأسد، لقب بـ”مانديلا سوريا. كان صاحب شخصية فريدة، تجمع بين التواضع والبساطة الشعبية والصلابة السياسية إلى حد التصلب. وكان رجل مبادئ، أفنى حياته في سبيل قضيته، وتبنّى، بعد خروجه من السجن الطويل، على الرغم من شيوعيته، قضية الديموقراطية، أو بالأحرى أطروحة إسقاط النظام بأي ثمن. وكان، عدا عن ذلك، رجلاً شجاعاً لا يخشى شيئاً، ولا يهاب المغامرة، رجلا أوتوقراطياً نموذجيا .
خلال فترة اعتقاله الانفرادي في سجون الأسد الأب، كان الترك يلملم حبيبات العدس والحصى، ويصنع منها أشكالاً فنية على الشراشف والأقمشة المهترئة، في محاولةٍ منه للحفاظ على الحد الأدنى من الذاكرة والإدراك، بالنسبة لشخصٍ أمضى أكثر من 17 عاماً في سجن انفرادي لا يتحدّث فيه مع أحد، ولا يعرف له مكان يقينا .
انضباط ذهني – عقلي حديدي يسكب الشخصية على الضد مما هي عليه. ينبغي عليه التخلي عن كل أمل في الخروج الى العالم الخارجي .
“خبايا الذاكرة _ علاقات وأدوار” هو الكتاب الذي كتبه وألفه المناضل والمحامي غالب ياغي ، والكتاب هو سيرة سياسية واجتماعية عاشها ياغي طيلة ثمانية عقود. وغالب ياغي الذي كان من الجيل المؤسس لحزب البعث وأحد أبرز قياداته في مرحلة الخمسينيات من العقد الماضي، عاد وتخلى عن الحزب بعدما طالته الانشقاقات في أواخر الستينيات ومطلع السبعينيات.
الكتاب يتناول تلك المرحلة وأحداثا طالت لبنان وسوريا، فضلا عن التطورات السياسية اللاحقة في العراق، ويتناول محطات سياسية في مرحلة الحرب وما بعدها في لبنان وفي البقاع وبعلبك على وجه التحديد. هو الأصغر سنا بسنوات قليلة عن رياض الترك وكريم مروة ، الاثنان فصلت أيام بين رحيلهما، ولدا في العام نفسه 1930، وظلا شيوعيين عقودا قبل انسحابهما . ما يقارب قرنا من السنين شهد تحولات ومتغيرات، وكانا جزءا من ذلك التجريب السياسي في الانتصارات والانكسارات والمحاور والأحداث الغنيّة والعميقة. كان حظ الترك السجن ، وحظ مروة اغتيال قريبه المفكر حسين مروة بأيد ظلامية ، واغتيال قائده فرج الله الحلو الذي كان يشارك الترك سجنه في دمشق . بينما احتكر صدام حسين بعث البوابة الشرقية للوطن العربي بتمايز بين القطبين الشيوعيين. بدا ياغي صاحب تجربة غنية، لكن في الغموض والخلفية لتاريخ من الأحداث والسرديات المثيرة والمؤلمة بين لبنان وسوريا والعراق، تبقى أساميهم محورا للمتابعة والاحترام الشديد ، والنقد والاتعاظ في عناوين مختلفة.