ضحى عبدالرؤوف المل
تُصيب الحروب البشريَّة بالإحباط المتزايد نفسياً الأشخاص في المجتمعات التي تفرض الحرب أوزارها عليهم، كما أنَّ أضرارها على الأطراف كافة تمتد لتشمل المقاتل الذي يُصاب في المعركة المشتعلة بالخطر المتوقع في كلِّ لحظة، فقد يُقتل! وقد يحمل جروحه مدى العُمر، وإن بدت تضحياته وطنية بشكلها الدرامي المحفوف بالتعاطف مع الأقوياء من الجنود الذين أصيبوا في معاركهم بآفات جسدية تنطفئ بسببها حيوية الحياة في أجسادهم قبل عقولهم، وأكثرها نفسية وعقلية أو دماغية كما هي الحال في فيلم ((Causeway الذي يُظهر المشاعر الإنسانية التي تدفع بالمشاهد للعيش مع المصابين بالقلق من جراء الحروب. خاصة مع أولئك الذين تتغير حياتهم تماماً، وتصبح في نهاية المطاف تقليدية ضعيفة رغم الشباب التي تتمتع به بطلة الفيلم “جنيفر لورانس” في دور لينسي المتعبة من الالتزام بالدواء الدائم كي لا تُصاب بالاكتئاب وتتقبل إعادة تأهيلها من الهذيان وعدم التركيز وفقدان قدرتها الحركية على تنظيف أسنانها وسد احتياجاتها الشخصية أقلها فعلياً لتكمل حياتها بشكل مقبول عملياً، فالكثير من التغيرات طرأت على سلوكياتها، وجعلتها بحاجة لمساندة مستمرة، وهي المقاتلة الشرسة في فريق عمل من المهندسين.
المخرجة ليلى نيوجيباور وطاقم من المؤلفين هم أوتيسا موشفيج ولوك جويبل وإليزابيث ساندرز قدموا دراما تعتمد على المساوئ النفسية التي يُصاب بها الجنود في قالب درامي هادئ. إلا أنه في طياته يقدم رؤية قوية لمتابعة الحياة مهما كانت التحديات متشابكة ومعقدة، ومهما بلغت الصعاب في إعادة تأهيل ما تضرر، وخاصة بالنسبة للمرأة التي تُصاب بآفات مختلفة تضعها على مفترق طرق يصعب عليها تقبلها، ولا يمكنها اختيار ما تريد ولا العودة إلى الماضي. بل يفرض مستقبلها مقاومة نفسية هي كالحرب التي أصيبت فيها بنزيف دماغي أدّى إلى بقائها في مركز التأهيل لسنوات كي تكون قادرة على خدمة نفسها فقط، وبشكل غير كامل. وهذا ما لا نتوقعه عند دخولنا في حروب نخسر فيها أنفسنا قبل أرواحنا، فالقتل بمفرداته وتأويلاته قتل أنفسنا قبل كل شيء. فهل للعنف ردات فعل لا يمكن معرفة قوتها ما لم نخسر خلالها قيمة الذات ووجودنا في الحياة كما ينبغي؟ أو أنَّ الحرب إدمان بشري مذ شهدنا أول معركة بين الإنسان وأخيه؟ وهل القتال في أرض معركة بين الدخان والدم أسهل من الحياة الطبيعية بالنسبة لجندي شارك في حرب على أرض غير أرضه؟
حبكة السهل الممتنع التي ترتد نفسياً لتكوين صورة عن حياة امرأة أميركية مقاتلة في أفغانستان عادت إلى وطنها بتلف في الدماغ وبعد عودتها لم تتقبل الدواء الدائم لتبقى واعية تماماً للقيام بمتطلباتها في حياتها اليومية قررت التحدي وإعادة تأهيل نفسها لتعود إلى عملها وإلى أرض معركة أخرى . فالصراعات في الحياة ليست في الحروب فقط. بل في القدرة على البقاء واقفاً في أرض المعركة. فالضرر الذي قد يصيبك في علاقة حب فشلت فيها أصعب بكثير من القتال مع الجنود ورمي نفسك بين البارود والنار، فالمفاهيم الدرامية في هذا الفيلم رغم هدوء المشاهد المُثخنة بالرموز النفسية ، وبالمعنى البشري قبل الإنساني، وهو مواصلة الحياة غريزياً في أي معركة كانت ولو حتى بين الإنسان ونفسه، فالصراع هو صراع نفسي لمواجهة قوة البقاء في أي أرض أنت فيها بغض النظر، فالإحساس بالفراغ في الحياة أشد قتلاً من رصاصة أو انفجار يصيبك بتلف دماغي يجعلك في حالة إدمان دوائي أسهل بكثير من إدمان أصوات القذائف والانفجارات في المعارك. فهل برعت لورانس في إظهار قوة الضيق النفسي وإظهار نوبات القلق التي تثيرها زوبعات الحياة التي عادت إليها بتلف في دماغ يريد العودة للجنود الذين تركتهم في أفغانستان. وهل يصعب على جندي حرب الانصهار بين الأفراد في المجتمعات التي لا حروب فيها وتعيش بأمان وسلام بينما جنودها في المعارك؟
في هذا الفيلم برزت رشاقة عدسة دييغو غارسيا في تعميق المعنى التمثيلي لدى كل من جنيفر لورانس وصديقها مبتور الساق جيمس وهو (بريان تيري هنري) الذي تعرض لصدمة هو سببها وليست نيران الحروب التي أتلفت دماغ جنيفر، وهي أشد قوة على النفس، لأنه خسر فيها أفراداً من عائلته وبقي بمفرده يتوجع من ألم الوحدة أكثر مما يتألم من بتر ساقه. فمشاركة الآخرين وجودك معهم تخفف من الألم رغم الصراعات الخفيفة التي تواجهك وأنت معهم، كما هي الحال مع لورانس ووالدتها التي لم تتقبل احتياج ابنتها لشخص تستند إليه وتبقى تحت رعايته بعد تعرضها للانفجار بسبب معركتها في أفغانستان. فغلوريا والدتها التي تقوم بدورها ليندا إدموند تريدها أن تبقى لتحافظ على نفسها، ولا تريد لها العودة إلى الجيش وإلى الانتقال لأرض المعارك المشتعلة بالنيران مع محاربين عصفت بهم رائحة الدم والنار وأدمنوا الانسحاب من معركة الحياة إلى معركة من نوع آخر. فهل الحقائق النفسية الصارخة في مفاصل الحياة هي بحد ذاتها صدمة كبرى في الحياة؟ والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا الفيلم هو معرفة الأذى الذي قد نسببه للآخرين كما هي الحال بين الأم وابنها الذي فرض إدمانه دخوله السجن، ورفضه الخروج لعالم أصابه بلوثات إدمانية من نوع آخر. فهل رؤيتها للأخ الذي ولدت معه وشاركته تفاصيل حياته هي لإبراز هروبنا النفسي من أشياء قد نرفضها بشدة؟ أم أنَّ حقيقة الصراع في الحياة هو نفسي داخلي بامتياز وبشكل أكبر وأقوى؟