زهير الجبوري
في العرض المسرحيّ (حياة سعيدة) الذي قُدّم على مسرح الرشيد منتصف شهر كانون الثاني ضمن فعاليات مهرجان الهيئة العربيّة للمسرح في بغداد 2024، والذي كان من تأليف علي عبد النبي الزيدي واخراج كاظم نصار وكيروكراف وديكور د.سعد عبد الصاحب، ثمّة اسئلة تتوالد في خضم ما طرح من جدل اجتماعي ونفسيّ بمؤثرات الواقع العراقيّ المضطرب، غير إننا نقف عند عتبة العرض مع ما يحمله من أداء الممثلين وما تنطوي عليه وحدة الموضوع. فالمسرحيّة تبدو للوهلة الأولى ذات طابع حكائيّ من مسرودات الواقع، إذ العمل بكليته حصل داخل (مشفى) وهي انعطافة كبيرة ومؤشر واضح في أن الأحداث لم تخرج من إطار المؤسسة، مع ما قدم من أداء مسرحيّ مميز من قبل الفنان (حسن هادي/ العريس) والفنانة (لبوة عرب/ العروسة) والفنان (علاء قحطان/ صاحب الغرفة الذي ينتظر عروسه) والفنانة (هديل سعد/ الطبيبة)، وبنظرة فاحصة ودقيقة نلمس هيمنة النّص الذي كتبه (الزيدي) على (الأخراج) وهي سمة يتمتع بها المؤلف في أغلب أعماله، فثمة متواليات مترابطة لوحدة العمل لايمكن فصلها واللعب بنسقيتها وهذا ما يستنهض مسألة التلقي ايضا حين يشاهد العمل، ولعل الأحداث العراقيّة وما فرزته من ويلات متلاحقة ليومنا هذا جعل من المؤلف الأمساك بها وتدوينها ثمّ تقديمها .. العروسان دخلا المشفى هربا من انفجار حصل في الخارج ليصطدما بصاحب الغرفة ويستمر الجدل عبر منولوج جريء وساخر أحيانا أو بالأحرى ما يتمتع به من كوميديا سوداء، فاللامعقول (وهو نتاج ظروف سياسيّة وواقعيّة سوداء) يفرض ايقاعه على المعقول وما يفرزه من حياة معاشة، فالمعادل الموضوعيّ لفكرة العرض نجح فيه المخرج (النصار) إلى درجة كبيرة حين جعل من الحالة الزوجية تمرّ بمراحل تكشف عن فحوى هذه الحياة وما تجيء به من إنجاب الأولاد وبعدها الأحفاد، بمعنى استخدام العلامات الموجودة في المسرح (السرير) مع (الفرش) و(المخاد)، فـ (فرحان) و(فرحانة) وما مرا به من حالة اضطراب مفاجئة لم تكن حياتهما كأسميهما والحياة السعيدة (عنوان المسرحية)..! وهي مفارقة ملفتة للنظر وتأتي في ضوء متلاحقات الأزمة العراقيّة المعاصرة.
في الحوارية التي جمعت بين العريسين وبين صاحب الغرفة الفنان علاء قحطان الذي أعطى وقتاً مدته (10 دقائق) لإتمام الحالة الزوجيّة فهو زمن (النص/ الموضوع)، وعندما تكرر ذلك أصبحت المدة خاضعة لـ (زمن العرض) فهذه الدقائق شكلت محورا راكزا في بنية الحوار رغم الأسئلة المتواليّة في كلمة العروسة، منها (يعني شنو نفضها..عود شنو نخلص)، وهذه اللّعبة انسرحت عبر ادائية عالية ومهارة في التمثيل وايصال الفكرة، فتطويع الجسد بلياقة الأداء لدى كل فنان يشير إلى أمكانية احترافية، حتى شخصية الطبيبة (هديل) لم تنطق بكلمة ظهرت بأناقة الملبس ونسق المشي ما يدل على انتمائها لسلطة المؤسسة (الدائرة الحكومية في مشفى المجانين)، فهي داخل مصّحة وكل ما حولها يمرون بظروف وحياة غير سليمة ، وبالرغم من استثمار مساحة المسرح، الاّ أن ثيمة العرض انطوت على شكل دائري، فالدخول من نقطة والخروج منها يعبر عن قراءة دقيقة لمساحة العرض بأبعاده، ففي المشهد الأخير عند ارتداء قمصان المشفى والوقوف عند عتبة الباب للممثلين الثلاثة، كانت بمثابة لوحة فوتوغرافية معبرة عن لا نهاية العرض، بمعنى أن الأحداث لا تزال مستمرة في حالات أخرى وموضوعات مماثلة.
إنَّ الأحداث معبرة عن حياة معاصرة، لا غرابة في تلمس أوجاعها، هي جزء من واقعنا المتكرر بالمآسي والحاضر بالأزمات منذ عقود، وربما السخريّة من الأشياء داخل دائرة الوجع ذاته يعبر في الغالب عن تكوين موقف اجتماعيّ ونفسيّ معاً، هي في الوقت ذاته رسالة تعبير لواقع حياتيّ متكرر، ولعل المؤلف الزيدي انطلق من جذره الجنوبي ليمسك بهذه الأوجاع عبر لغة مسرحيّة مستوحاة من مسرودات عراقيّة، وأزعم أنه عكس هوية الإنسان العراقيّ على المستوى المحليّ والعربيّ من خلال نصوصه، ليترك الأبواب مشرعة أمام الآخر المتلقي لموضوعة لها صلة بحلقات سابقة وربما لاحقة..
ما ساند العرض المهارة الكبيرة في الإنارة والموسيقى والسينوغرافيا لـ (الجدار الأبيض.. والسرير.. والمخاد الذي وظف تجريبيا للأطفال المولودين.. والمرآة.. والملابس المعلقة)، لنلمس مدى أهمية هذه العلامات وكيفية استخدامها وتنفيذها مع الأداء، لذا شاهدنا تراجيديا الوجع لمسرح عراقيّ بحت تأليفا وأداءً وإخراجاً.