شاعريَّة القصّ واحتجاج السرد

ثقافة 2024/01/25
...

  عقيل هاشم 


شكلت المجموعة الأخيرة للقاص محمد الكاظم (مقبرة الغراب..مشروع معماري للآخرة) نموذجاً لوعي مختلف يطال الشكل والمضمون ضمن تحولات القصة القصيرة التي باتت خاضعة بدورها لتحولات الحداثة، وما بعدها، تتكون المجموعة الصادرة عن منشورات الإتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق المجموعة من ثلاث عشرة قصة تؤشر إلى تحولات كبيرة في عالم السرد وتفتح الطريق أمام اشتغالات سردية جديدة بعد انتقلت النظرة المعاصرة لأركان القص بمفهومه التقليدي نحو مساحات رحبة تتصل بأفق قادر على عكس المقولات والمقاصد التي تتنازع عالمنا الذي تهدمت جدرانه، وتلاشت مقولاته العليا، ومركزياته. ومن هنا تكمن أهمية هذه المجموعة التي تنهض على رؤية جديدة تنأى بنفسها عن بعض الكتابات في مجال القصة التي تبدو عالقة في عوالم انقضت، من منطلق أن معظم الكتابة المعاصرة تبدو في إحالتها على العالم الخارجي قلقة، إذ لا تنطوي على أي بادرة في تحديد التوجهات الدلاليّة للنصوص، أو أنها تبدو غير معنية بتحقيق أكبر قدر من الإنزياحات عن التشكيلات القصصية المتعارف عليها، في سبيل تحقيق مقولة ثورة الشكل القصصي، بمعنى إماطة اللثام عن الأزمة التي تعصف بالإنسان الذي فقد يقينية الأشياء.

بدا القاص محمد الكاظم مجموعته بعتبة تحت العنوان الرئيس "مشروع معماري للآخرة" كاستهلال أولي لمفتتح القصص التي تستجيب لمعيارية الأفكار والبنى، ثم تناوبت القصص على إنارة تساؤلات مهمة في وعي القارئ المعاصر عن فلسفة الوجود - معنى الموت، وهذا يتأتى من منظور الكاتب الذي يبدو مهموماً بالواقع المستلب، أو ذلك العالم الخارجي، الذي لا نستطيع توصيفه بالطريقة المثلى. ومن هنا نفاجأ بأنّ العالم الحكائي يمتد بالقارئ إلى ما لا يريد، اختار القاص عنوانا شاعرياً ضمن أطروحته النفسيّة والوجوديّة والاجتماعيّة للعتبة الأولى، وهي علامة فارقة في منعطف الحداثة، والتزم بهذا الخط في كل قصصه التي تراوحت بين الحديث عن الشدة النفسيّة ومعاناة وشقاء الانسان حول مفهوم اللامعنى. 

وصف الكاتب للحالات الإنسانيّة التي يمر بها أبطال تلك القصص تبدو لي شديدة التماهي مع ظرف المواجهة المصيريّة، فيما تناوب السرد بين السيّري والموضوعي. وكان الأبطال دائما في حالة قلق في حين تحول الوصف إلى حديث عن نفق مظلم يتعين على الأبطال المرور فيه. ولو ألقينا نظرة على قصص المجموعة سنلاحظ حضور الواقع ذاتي لشخصيات عراقية نعرفها، فأنظار الكاتب تتركز على ما هو داخل التجربة العراقية وليس خارجها، وهذا هو المفصل المهم الذي يميز الكاتب. القصص هي أحمال ملقاة على كاهل وجدانه الشخصي، وتجد الدليل على ذلك في مفردات تتكرر لديه مثل: الموت والمرض والرحيل (ليس بمعنى الموت ولكن الضياع في التيه واستلاب الروح ـ ذهولها وانفصالها) مع صور لمشاهد تعبر عن الحرمان واليأس بعد موت الأب مثلاً . إنها معاناة الإنسان المتكررة كل يوم، إنه نسق الخيبة، يظهر الموت كثيمة تتكرر في قصص المجموعة، فرائحة الموت التي تنبعث تؤكد استمرار اغتيال الإنسان، وتتكرر صور الموت المادي، وموت الأفكار، وموت الأحلام، وموت الأيديولوجيا، ولعل أشد ما يميز هذه القصص تلك القدرة السرديّة لناظم سردي قوامه شخصيّة الكاتب التي تنهض بفعل الحكي، فالقصص في صنعتها ما هي إلا انعكاس لمضمون البنية الاجتماعيّة الغارقة بالحزن والاستلاب، ومع ذلك فثمة دوماً من يحوك ويتحكم ويسيّر، إنّه النسق الخفي لمجال الفعل السردي. ربما هي قراءة مغايرة، تتصل بتفسير ظاهرة تنوع سرد القصص في هذه المجموعة، ابتداء من المشفى ومرض العضال للأب، ثم السارد الذي يتعمد الوقوع في أخطاء طباعية والإملائية ليصنع مناخاً نفسياً مبتكراً يحيط ببطل قصته، إلى سرد قصة حكاية كتاب الجوع لابي الثناء الأنباري وإسقاطها تلفيقياً على ما يبدو واقعاً، ثم الانتقال إلى استخدام تقنيات توظف التكنولوجيا في مناورة سردية مدهشة تستخدم سرد رسائل الموبايل –الماسنجر وتحولها إلى سرد عبر قصة (الرجل)، ثم قصة (شعر بنات) التي تقدم تشريحاً نفسياً لشخصية تتفاعل مع الأصوات التي تسمعها بطريقة لا يمكن أن توجد إلا في قصة من قصص العالم الثالث، كما يوظف الكاتب أشكالا ومخططات يحولها إلى أدوات سردية تنهض بمسؤولية رواية جزء آخر من الحكاية، ما يزيد من القيمة الجمالية للفعل السردي، كما يحقق أغراضا تتمثل في تحقيق الإيضاح والفهم وكل ذلك يقود إلى تحقيق المغايرة.  

اختار الكاتب أمكنة قصصه بعناية نظراً لما يمثله المكان من دلالة في وعي الشخصية، كما أنّ تحولات السرد المكاني تشير إلى فكرة ان رحلة الإنسان ليست إلا رحلة مجسدة للبحث عن الذات في عالم غير آمن وغير مستقر، يحركها السعي للوصول إلى عالم لا وجود فيه للخوف من القادم والمباغت ضمن السياق المعاصر. المكان يتسم بالتوتر، هذا المكان يعمق من مأساة إلياس واندحار فكرة الحياة، يتجلى بفكرة الوطن وحضور صورة الحرب المستمرة. وعليه، فالمكان في تلك القصص هو مسرح الحياة المحدودة كالمشفى والكوخ والمقبرة وما إلى ذلك، لكنه مكان متغير تأويلياً من جهة ثانية. بمعنى أنه مكان ملموس يزداد حجمه حسب طريقة تفسيرنا له. تعاملت هذه المجموعة مع المكان وفق علاقة اتسمت بالشد والجذب وربطت بين المكان والإنسان والمصير في علاقة جدلية لا يمكن حسمها بمجرد توصيف عابر، فتلك العلاقة تتحول كثيراً في سياق النص، هذا التحول لا يقتصر على البعد المادي، ولكنه يصيب أيضا الجانب المعنوي، ليشمل التحول في جوهر الإنسان، الذي لن يعود كما كان. 

وفي الختام أقول إن قصص مجموعة (مقبرة الغراب. مشروع معماري للآخرة) تنطوي على توصيف مختلف للذات الجمعية وهزائمها، فالمحمولات الدلالية بقيت فاعلة تنبثق من بؤرة واحدة هي الحكي العابر للأزمنة، ذلك الحكي القادر على تفسير التحديات التي تواجه الإنسان من زاوية نظر مختلفة تحمل الكثير من القدرة على الإدهاش نتيجة فهم متبصر للبنية الثقافيّة للواقع ولأدوات الفعل السردي . قصص كتبت بلغة تمكنت من نقل قيم التوتر عبر الجمل القصيرة المفتوحة على التأويل، وهو ما أفضى إلى إيقاع سريع ومشوق، إضافة لارتهانها أحياناً لعوالم كابوسية، تبقى "مقبرة الغراب" مجموعة قصصيّة إشكالية منفتحة على الكثير من التأويل، ولا سيما على مستوى الخطاب والمقاصد الدلالية.

كما إنها تحاول أن تؤثث أشكالاً لسرد بصري غير مألوف يعبر عن رغبة في التجاوز بكونها عتبة نصيّة تضيء المتون السرديّة، هذه الإرشادات الدرامية تحيل إلى المزيد من التعرية والاحتجاج الذي تحفل به مجمل أعمال محمد الكاظم السرديّة.