يتبغدد علينا

الصفحة الاخيرة 2024/01/28
...

محمد غازي الأخرس

ويقول العربي: فلانٌ يتبغدد، أي أنّه يتدلّل أو يتغنّج أو يصطنع الترافة. والبغددة هي كذلك ترافة ودلال وتحضّر، وأبرز ظهور لها يتبدّى في اللهجة وطريقة الكلام.
ورد المعنى عند كاظم الساهر بأغنية تنتمي للمربع البغدادي هي: يتبغدد علينا واحنه من بغداد، بمعنى أنّه يحاول خداعنا بأن يبيع البغددة ونحن نعرف البئر وغطاه. وترد البغددة في لهجة مصر، محيلة لعصر الترف البغدادي القديم، يوم كانت المدينة مثالاً للرفاه من جميع النواحي. كانت بغداد القرن الرابع الهجري توازي باريس القرن التاسع عشر. كانت عاصمة امبراطوريّة شاسعة، وإليها تجبى الأموال ويفد الوافدون من طلاب العلم
والأعمال.
غدت بغداد الكرخ والرصافة ملتقى العالم ومنتهى الحضارة. لهذا سكنتها مختلف الأقوام، فالعربي يجاور الفارسي والكردي يجاور التركي، المسلم والمسيحي واليهودي والمندائي يتعايشون معاً، وإليها تتوجه السفن المحمّلة بالجواري من ساحل البحر الأحمر، ومن شرق أوروبا. فيها تعددت اللغات وانتعشت الأعمال وظهرت من المهن ما لا يوجد في غيرها، فهناك المضحكون والحواة، ملاعبو القرود والمشعوذون. من ثمَّ، من المنطقي أن تولد طبقة من المترفين نؤومي الضحى، الذين إذا تحدثوا اصطنعوا لهجة ذات دعة وغنج. لكن الطريف هنا أنَّ هذه البغددة كانت تقابلها دائماً خصيصة نقيضة. فالمدن الكبرى تحتمل الظاهرة وضدها، الثراء الفاحش لا يقوم إلا بجوار فقر مدقع، والترف والدلال لا يوجدان إلا وفي الهامش فاقة
وعوز.
لذلك تجد إلى جانب البغدادي المترف اللهجة، واطئ الصوت، نقيضاً ذا صوتٍ خشنٍ ولَكنةٍ حادّة. إلى هذا التناقض أشار الراحل أحمد الوائلي في عينيّته حين قال: يطغى النعيـمُ بجانبٍ وبجانبٍ.. يطغـى الشِّقا فمرفّهٌ ومضيَّعُ.. في القصر أغنيةٌ على شفةِ الهوى.. والكوخُ دمعٌ في المحاجر يلذعُ.. ومن الطوى جنبَ البيادرِ صُرّعُ.. وبجنبِ زقِّ أبـي نؤاس صُرّعُ.
هذا في الرفاه والجوع، أمّا في اللهجة وطريقة الكلام، فبحسب أمين الريحاني الذي زار بغداد مرتين، صوت البغدادي العريق ببغداديته لا بدَّ أن "يهزّ الأرض ويلقي الرعب في القلوب ـ أنا بغدادي مو عجمي فك عينك
زين!".
وعن البغداديَّة يقول إنَّه "لا أظن أن بين نساء العرب من هُنَّ أذربُ لساناً وأمضى بياناً من البغداديَّة. ولا أظن أنّ ببغداد من يفوقها في بلاغتها الذابحة، إلا أن يكون الشحّاذ البغدادي". إذن، أين ذهبت البغددة والترافة والغنج في المشي والجلوس والكلام!
إنّها موجودة يا صاح، لكن في أعلى الشرفات، أمّا في الشوارع الخلفيَّة، فالصوت عالٍ واللكنة حادة مخيفة، وهذا هو شأن المدن العظيمة التناقضات، فتأمّل.