التفكير الفلسفي بعيداً عن التصويبات الايديولوجيَّة والسلطويَّة

ثقافة 2024/01/29
...

  حازم رعد 

بعد أن حول افلاطون وجهة الفلسفة من الشعبيّة {كما كانت مع استاذه سقراط} وحصرها في الاكاديمية التي أسسها واشترط على الدارس فيها أن يكون مهندساً أو رياضياً، بدأت الفلسفة تغيب عن المجتمع، ولم تكن تلك التي تناقش في الأسواق والساحات العامة وتتداول في الطرقات وأروقة الأمراء وفناءات المنازل، بل أخذت شيئاً فشيئاً بالتماس {صارت موضوعاً مؤسساتياً يخضع لمنهج السلطة} بالطبع لم يكن قصد افلاطون هو تلك النتيجة، لأن فلسفته مليئة بالشعب والعوام، ولكن حصر الدرس الفلسفي بأطر ونظام يفضي حتماً إلى تلك النتيجة.

إن لاتصال المؤسسات التعليميَّة والتربويَّة بشكل مباشر وبارتباط وثيق بالجهاز السلطويّ لا من حيث الإدارة، بل من ناحية وضع المواد الدراسية والمناهج وطرق البحث وأساليب التدريس، الأثر الكبير في انخفاض مستوى الموضوعيّة، ونسب العلميّة في المواد والمناهج، كما أنه سيؤثر في توجيه العقول بتغذيتها بركام من المواد والمعلومات غير المنقاة أو الخاضعة للفحص والتحليل والنقد العقلي الموضوعي. إذ أن ذلك على كل حال سيؤدي إلى تحقيق مطلب ايديولوجي “تأطير تلك المؤسسات” بالفاعلين المهيمنين عليها، وسيعمدون عند إذ على تغذية المرؤوسين فيها بمختلف الأطر الإيديولوجية التي يعتقد بها أولئك الفاعلين. وعلى هذا الحال فأن تلك المؤسسات لن تنتج معرفة حقيقية، وحتى لو انتجت فأنها ستصوب بقوالب الايديولوجيا لتلبي اغراضها وتؤدي خدمة لها “فتصح تلك المؤسسات أدوات تخدم الايديولوجيا” وتحقق مطامحها. ولهذا كان المطلب الرئيس للفلسفة أن تنتج خارج تلك المؤسسات، ومن الطبيعي أن الفكر أو الدرس الفلسفي خارج أسوار الاكاديمية أو المؤسسة يكون أبعد نظراً وأكثر ثراءً ودقة وعمقاً واحاطة بالموضوعات والمشكلات التي تتناولها بالبحث والتحليل والحفر داخل طبقات كل معضلة أو مسألة اجتماعية أو سياسية أو منهجية، لأن القراءات فيها ستكون محايدة، ولا تقوم إلا على تلبية متطلبات البحث الفلسفي العاري من مختلف الانحيازات، فليس للمشتغل في الفلسفة أي غرض آخر إلا افادة وإثراء المعرفة وتوفير حلول ومعالجات للمشكلات والصعوبات، أو أن الغرض تعميم الطريقة الفلسفيّة في التفكير التي هي تحض على الشك المنهجي والتمرد على المألوف والسائد، وإعادة صياغة أفكار تتناسب مع الوضعيات الراهنة التي تؤثر في الإنسان وتؤثر في حياته ومجرياتها.

أجد واقعية الجدل والسجال بين ما هو درس اكاديمي، وخارج اكاديمي بالنسبة للتفكير الفلسفي حيث الأول مؤطر بأسيجة القوانين والتوجيهات والتعليمات التي تنسجم مع المؤسسة “الرسمية” السلطة وتعبر عن توجهاتها وقد تنبّه الفيلسوف الفرنسي ميشال دو سارتو إلى الشيء ذاته، حيث لاحظ أن “الالتزام الأكاديمي المحض ليس معرفة وإنّما سلطة” تفرض على الاساتذة والطلبة، وتضخ فيهم الرؤى التي تختارها السلطة تنسجم مع ما يخدم ايديولوجيتها.  

بينما الدرس الفلسفي خارج الاسيجة تلك، حيث يمتاز بفضاءات واسعة من الحرية ويتحرك في منفسحات تمكنه من أن يكون واقعياً في القراءة ومحايداً في الطروحات وصائباً، ولو لحد معين في اطلاق الأحكام والنتائج. إن الذي أحدثه افلاطون بتأسيس الأكاديمية وجعلها الفضاء الذي يحوي الفلسفة ويؤطرها مازال أثره واضحاً لليوم، ومازال أثر الفضاء السقراطي “الحواري التهكمي والساخر” يقوم على محاولات فك أسوار الاكاديميات أو جعلها أكثر انفتاحاً على الواقع واهتماماً بمشكلاته وتداعياته والاقلال من هيمنة السلطة على الدرس العقلي الاكاديمي، لأن تلك الهيمنة تقويض واقصاء له، لذا فأن البدائل المقترحة تقوم على جعل تلكم المؤسسات بمعزل، ولو لحد ما عن السلطة “بمعزل عن تدخلاتها المباشرة في المواد والمناهج والتصويب للأفكار وما شابه ذلك” وأن يقوم أشخاص أو لجان وفرق خاصة بالأشراف على المؤسسات العلمية وابعادها عن شبح الادلجة والتحيزات الجهوية وغيرها.

مالم تكن هناك حرية تامة للمؤسسات العلمية والاكاديمية في التفكير والتعبير والطرح فأنها لن تقدم أية معرفة مجدية، ولن تنتج فعلاً نظرياً وعلمياً نزيهاً ومحايداً ومستقلاً عن املاءات السلطة، فتغدو الاكاديميات أذرع لتمدد السلطة وتحقيق ايديولوجيا في مقابل المعرفة القائمة على الموضوعية والحياد والمرونة الفكرية، بل سيكون مجمل نتاجها هو إرادة فعل السلطة، وفي هذا السياق يعبر جاك دريدا عن ذلك “إنّ الانغلاق والنزعة الشمولية الكلية اللذين طبعا تاريخ الفلسفة منذ ميلادها، جعلا الفلسفة تسعى، لأن تغدو لغة رسمية لدولة خالصة، فصار الفكر يستمدّ شكله الفلسفيّ من الدولة كجوهر متقوقع على

ذاته “. 

وإذا أريد لتلك المؤسسات أن تنتج وتثمر، وأن تكون بمنزلة الينبوع المغذي للدولة استشارياً وعلمياً ومعرفياً ومنهجياً، فلابد من حضوتها بمساحة كبيرة من الحريات، وكذلك لابد من اعتبارها مؤسسات لا تخضع للضغط الايديولوجي والرقابة المؤسسية، وإلا فأن ما تعود به لن يكون معبراً عن حقيقتها وواقعها وهدفها الذي أسست واقيمت من أجله، وهو انتاج معرفة علمية حقيقية بعيدة عن الاملاءات والتصويبات الايديولوجية أو السلطويّة.