وداد سلوم
يشد عنوان الديوان الشعري «نداء يتعثر كحجر» الذي صدر مؤخرا للدكتور خالد حسين، القارئ بما يحمله من تضاد في الصورة، بين الصوت والمناجاة وبين الحجر المتعثر، والنداء مناجاة أو صوت للبعيد لينتبه، لكن المنادى- الحبيبة على مسافة تأكله وتجعله ثقيلا يسقط كحجر، أو ربما تعثر بظرف طارئ ممتد كالحرب. لتبقى حلماً يخالجه من دون أن يصله.
«كصيادٍ يقايض طريدةً مستحيلةً بحياةٍ طارئة»
يصنف الشاعر قصائده في الفهرس تحت تسمية تضاريس ومنعطفات، وهو ابتكار جميل، كأنه يدعو القارئ ليتنزه بين القصائد كمن يتجول في أرض ممتدة. راسماً خريطة حبه ففي المنعطف الأول ذاك الشغف المفتون بالأنثى يتصاعد بفوران مبهج أما في المنعطف الثاني فيتنازعه قلقٌ وجودي مستمر يسكنه ويتبدّى كل حين إذ يدرك المسافة بين الحلم والواقع ومرارة الخيبة التي ترافق الحسّ الشعريّ بتخلي المحيط عنه، الحب واللغة والمرأة، ليواجه أزمته وحيداً، فكل ما نعيشه ليس إلا سراباً. ليأتي المنعطف الثالث والأخير مازجاً بين ذاك القلق وبين السعادة بالسعي للحب فالصبي الذي يعود من الزمن بالانكسار سيظل يبحث وينتظر الحب الذي لمّا.. وهذه النقاط التي يكرّرها بعد لما غير مرة ٍ تقودنا إلى أنّ كل ما حدث لم يكن إلا (حلماً في الكرى أو خلسة المختلس).
الديوان نشيد في الحب والسعي إليه رغم الوعي باستحالته، فالشعر لا يهتم بالنتائج، بل يكتفي بطلبه كحالة إنسانية عليا ترومها البشرية في سعيها للاستمرار وللحرية منذ الأزل، ناسجاً تضاريس الطبيعة والجغرافية المكانية مع تضاريس الجسد - الأرض الثانية إذ قوبل الجسد دوما بالأرض والجنس بحرثها. ليستدرج الحب كنوز الجمال الأنثوي والرغبة والشهوة المتفتّحة في تفاصيل اللقاء وطقوسه. فترتدي الحبيبة وجه الزمان والمكان وتتواشج مع الأرض والوطن فتارةً لها وجه الحقول وتارةً وجه الآلهة «آناهيتا» ربة الينبوع. ليبدو الوصال كالحلم المكتفي بالحب والحب المكتفي بالحلم حيث حضور الأنثى بكامل الجمال الجسدي وإغوائه مستدركاً كل مرة تفاصيل جديدة للجسد وحالاته والاندغام الكلي بينهما:
«أيّ سرد هذا
أيّ سرد له من المروءة، من بسالة القول لأصف حلمي ملحمةً نشيداً لا ينتهي».
منذ البداية يخبرنا الشاعر عن تصنيفه للقصائد، قائلا: «اشتباكات سردية في إهاب الشعر» حيث الكثير من العبارات الطويلة امتداد السطر والتي قد ترهق مزاج القارئ. ورغم ذلك لم تفقد العبارة شعريتها، بل بقيت زاخرة بالجماليات البلاغية التي تحتفي وتوازي جماليات الجسد بجرأة واضحة منحها الخيال ذلك التنوع والتصاعد فنحن في الحلم لا نجد عيوباً في الآخر المشتهى بل نبالغ في وصفه المادي ويصبح الصورة المثلى للجمال وصولاً إلى الأسطرة والكمال.
تبقى اللغة على مدار الديوان في استنفار جمالي مشغولة بعناية المجاز مكتنزة بطاقة التصوير والإيحاء المتدفّق في صور مبتكرة ومغايرة تعيد الدهشة للتفاصيل الكثيرة. كتشبيه الدبكة الكردية بالقيامة وهي الصُّورة غير النمطية للقيامة المعروفة بالخوف والفزع، أو الشّجرة التي تأسر الريح.. إلخ، كما يؤنسن الأشياء فيمنحها روحاً كالماء الذي يرسم تفاصيل المرأة كأنه العاشق الداعر الذي يتغلغل في ثنايا الجسد.
تتألق اللغة بالصور والمفردات التي يحاول تطعيمها بمفردات كردية أو من سياق الحياة الشعبية الكردية كالدبكة والنيروز وأسماء الأعشاب البرية وتارة أخرى أساطير شعبه، إذ يعيد تجسيد أسطورة (مموزين) وأسطورة (سياميند وخجي) موازياً قصة حبه المحال في الواقع وبين أساطير الحب المؤلمة التي تشكّل تراث الشعب الكردي الموسوم بالمعاناة والقهر.ورغم ذلك التبادل العشقي المحسوس حين يجعل الشاعر اللقاء أرضياً، فيناوب الكلام في بعض القصائد بين الحبيبين على شكل حواريات ملونة؛ ندرك المسافات التي تحضر مؤشراتها في السياق كالتناوب المكاني بين القرية والبحيرة، وغيرها وهي ما يشعل شغاف القلب بالذكريات، فحميمية اللقاء تستحضر حميمية المكان إلى الذاكرة.
«من أي نشيد للحجر صاغك الإله تحت وهج الرغبة؟»
يحتشد الديوان بتلك الرغبة المشتعلة والشحنة العاطفية والشعرية الباهرة، والشهوة الدائمة الاشتعال التي لا ترتوي ولا تصل لأنها خارج الإمكان ولهذا يحكم الديوان عنوان النداء فهو مستمر للحاجة التي لا ترتوي .
ورغم الإغراق في وصف الجسد واللقاء بقيت بينه وبين الإيروتيكية تلك المسافة التي فرضتها الحالة الغائمة بين الحلم والحقيقة تارة وتلك الإسقاطات التي تأخذ القارئ إلى عوالم خارج الجنس.
المرأة الحبيبة في احتمالاتها
هكذا نجد المرأة (الشجرة – اليمامة – مشعلة الحرائق – عيناها سماء - الغزالة- المتوهجة كشمس – حورية الكهف) التي تلخص النساء في احتمالاتها الكثيرة؛ فهي الرمز الحبيبة والأرض والوطن وهي الغزالة التي تتحدّى الصياد و هي الواعية برغبتها وجسدها التي تنادي الذئب ليحرث أرضها مثنى وثلاث ورباع حتى بلوغ النشوة، وهي الأم التي تمسك الشاعر عن السقوط يروي لها أحلامه وانكساره وحيرته في غربته. ولعل مراوحة المرأة بين حبها ومشاغل ذاتها في احتمالاتها المتعددة هوما يقود الشاعر إلى التردد والغيرة وكسر عالم الحلم ومن ثم إقامته مرة أخرى. إذ يرتطم بجدران الواقع موحياً بالنهاية العدمية للأشياء والوجود.
لتأتي قصيدة العدم في منتصف الديوان كما لو كانت ميزاناً بين تحليقين ممتدين بين الحلم ومكابدة السعي إليه وكأن الروح إذ تكابد في الحياة وتبتكر طرقاً وأحلاماً تحاول دفع الاهتراء الروحي والسقوط فالحبُّ ملاذ أمام الحتمية.
ينتهي الديوان على شكل صرخة في مقطع تبدُّد
«ظلان يتبددان في صرخة ..!»
والصرخة ثنائيّة الاتجاه فقد يكون فيها تبدّداً وجودياً، أو احتجاجاً أخيراً على هذا التشظي. ولعله يريد أن يقول إن الصرخة تتبدد في الخيبة واللاجدوى، كما تتبدد حالة العشق بالمنع والاستحالة. ويأكل الصمت النداء، حتى أنه يتمنى لو كان حجراً ينطوي على حجر حتى لا يجرح قلبه المرور بالحب، ما يعيدنا إلى مقولة محمود درويش ليت الفتى حجرفهل الحب مجرد صرخة في وجه الواقع والحياة أم أننا ذاك النداء للحياة الذي ينتهي حجراً، وفي الحالتين إن هي إلا صرخة وجودية ثيمتها الاستحالة والألم.
شاعرة وكاتبة سورية