باقر صاحب
بدءاً نقول: هل عنواننا التساؤلي منطقيٌ بنسبة كبيرة، لكونه يمارس انزياحاً على المقولة التي شاعت في الثقافة العربيّة بأن؛ الرواية أصبحت ديوان العرب، والتي هي بدورها انزياحٌ عن مقولة تقليدية جداً بأن الشعر ديوان العرب، وكَثرت الصيحات النقدية بأن ثقافتنا شعرية بامتياز.
وبحسب التضادّات المنطقية بين الغرب والشرق، فإنَّ الثقافة الغربيّة تعدّديّة، فقد تزامن نشوء الرواية الأوروبية مع رواج الفكر الفلسفي في القرن السابع عشر، ممثلاً بديكارت وجون لوك. أفكار هذين الفيلسوفين لها ترابطٌ كبيرٌ مع نشوء النزعة الواقعيّة في الرواية الغربيّة، لأنَّهما تناولا في نتاجهما الفلسفي الطليعي آنذاك أهمية الفرد وتجاربه الحياتية، التي من الممكن أن تكون كنزاً من القصص، بوساطة «اكتشاف الواقع عبر الحواس». تلاقح المعرفة مع الحدوس الواقعيّة عبر حواسّ الفرد، كان الجّذر الأول لما يُسمّى؛ شموليّة الفنّ الروائي، أو ما يُسمّى؛ الرواية فنّ العصر، كلا التسميتين الفن الشامل، وفن العصر، تعنيان أنَّ الرواية مصبُّ الأفكار والفنون والآداب، بجميع متفرّعات تلك العناصر، التي تَمتَح من الحياة الواقعيّة والتجارب الإنسانيّة، لأنَّها من دون ذلك الامتياح تصبح روايات تجريديّة، وإلى ذلك يقول الناقد والأكاديمي المتخصّص في الدراسات السرديّة الدكتور عبد الله ابراهيم في حوار أجرته معه «الشرق الأوسط اللندنية»: «قام الخطاب السردي، مُمثَّلاَ بالرواية، بتمثيلٍ مُعمّقٍ لأحوال المجتمعات العربيّة، بما في ذلك الحريّات، والهُويّات، ومصائر المنفيّين، والمهجّرين، والنساء، وأصحاب الرأي، وضحايا الحروب الأهليّة، فضلاً عن ضحايا الاستبداد السياسي والاجتماعي والديني، وهم كثرٌ، فإن لم تكنِ الرواية هي السّجلّ الشّامل لذلك، فأين هو ذلك السّجل الذي نجد فيه كلَّ ذلك؟».
وسيلةٌ ثورية
ومن الأسانيد الغربية لدعم مقولة «الرواية ديوان العالم» ما تضمنه كتاب «الرواية المعاصرة» للكاتب والبروفيسور البريطاني روبرت إيغلستون الذي ترجمته الكاتبة والروائية العراقية المغتربة لطفية الدليمي، العرض المُكثَّف لهذا الكتاب في صحيفة «الخليج» الإمارتية، ينوّه إلى «قدرة الفن الروائي على تناول كلّ الموضوعات، التي يمكن أن ترد ببالنا سواءً أكانت واقعيةً أم ميتافيزيقية؛ الأمر الذي يعزّز القناعة السائدة بأنّ الرواية (وبخاصة المعاصرة) وسيلةٌ ثوريةٌ لمقاربة كلّ المعضلات الإشكالية في عالمنا، وعلى الصعيدين الفردي والجمعيّ».
ديوان الحياة المعاصرة
تذكر الروائية السورية فائزة الداوود لوكالة «سانا» السورية بأن مصطلح «الرواية ديوان العالم» برز في القرن الماضي. كما أن الروائي الفلسطيني يوسف الأبطح، ذكر ذلك المصطلح أيضاً في حوار نشرته «القدس العربي» اللندنية. وعثرنا في حوارٍ مع الشاعر والروائي المصري أحمد فضل شبلول على مقولةٍ موازيةٍ لما نبحث فيه، بأنّ الرواية ديوان الحياة المعاصرة»، مُردفاً ذلك بالقول بأنّها «تحملُ كلَّ وجهات النظر، والحوار والحوار المضاد، والبطل والبطل المضاد، واللغة واللغة المضادّة، الرواية الآن حمّالة لكل شيء» متحدّثاً كما حاله هو، عن تحوّل عديد الشعراء إلى كتابة الرواية، ومن خلال حيثيات الحوار يوصل رسالةً إلى أنّ هناك استسهالاً في كتابة الرواية، حيث بات يكتبها هواةٌ عديمو الخبرة، وهذا من سلبيات طغيان الإصدارات الروائية، شبلول يذكر ملاحظةً، رُبّما تكون صائبةً، مفادها بأنَّ فوز الروائي المصري الراحل نجيب محفوظ بجائزة نوبل للآداب عام 1988، أسهم كثيراً في مضاعفة الإنتاج الروائي المصري والعربي لغاية اليوم، ونحن نتساءل: هل أيقظ فوز محفوظ بأعظم جائزةٍ أدبيةٍ في العالم، الأمل عند الكتّاب العرب بقطف الجائزة مرةً أخرى، بالجنس الأدبي ذاته، الذي فاز فيه محفوظ؟. ويلاحظ روّاد معارض الكتب في مختلف الحواضر العربيّة، آلاف العناوين الروائية، بحيث تطغى على عناوين الأجناس الأدبية الأخرى، والمعارف والعلوم والسياسة والفلسفة والتاريخ. ويمكن القول بأنَّ منصّات التواصل الاجتماعي أسهمت في ترغيب الشباب على قراءة الأعمال الروائيّة، التي تروّج تلك المنصّات الإعلانات عنها، فضلاً عن أنَّ كتّاب الرواية ينشرون فيديوهاتٍ أو بثّاً مباشراً للتحدّث عن رواياتهم، وملخّصاتٍ عن أحداثها وشخصياتها، فيسارع الشباب عامةً والمهتمون بالرواية خاصةً باقتناء هذه الأعمال.
زدْ على ذلك عن فوز الأعمال الروائيّة بجوائز مغريةٍ عربيةٍ وعالمية، مثل «كتارا» و»البوكر العالمية للرواية العربية» و»مان بوكر العالمية» وغيرها، يتمّ الإعلان عنها أيضاً، عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وهنا نتوّقف على ما هو مهمٌّ في جعل الرواية ديوان العالم، فهذه الجوائز، أصبحتِ الحافز الكبير، ليس فقط لمن هم في بداية الطريق، بل حفزّت المحترفين ممن هم يمارسون كتابة الشعر والقصة القصيرة والنقد، على الانغمار في عالم الرواية، لعلّهم يفوزون بجائزةٍ تنقلهم إلى مستوىً معيشي أفضل، وربّما يتفرّغون للكتابة، بعد هجرانهم أعمالهم الاخرى التي، رُبّما، لا علاقة لها بالكتابة، فتستنزف يومياتهم. غالبيّة الجوائز الكبيرة، الآن مقصورةٌ على الرواية، وبدرجةٍ أقلَّ بكثيرٍ للأجناس الأدبية الأخرى، هذا يقودنا إلى القول بأنَّ دور النشر عربيةّ وعالمية، باتت تتحمّس لنشر الروايات بالدرجة الأولى، لعلَّ منشوراتها تفوز بجائزةٍ كبرى، فتزداد مبيعاتها من الرواية الفائزة أضعافاً مُضاعفة، هذا فضلاً عن المحفّزات الكبيرة لترجمة الرواية الفائزة إلى لغاتٍ أخرى، كما هو حادثٌ في الجوائز الكبرى، وهنا تحصل دار النشر والكاتب الفائز على حقوق نشر العمل المُترجم، زدْ على ذلك أنَّ الدار تقوم بإصدار طبعاتٍ جديدةٍ للرواية الفائزة، وهذا يدخل ضمن المكاسب التجارية لدور النشر، كما يدور حديثٌ بأنَّ بعض الدور المحترفة توجّه الكتّاب المتعاقدين معها، بالكتابة عن ثيماتٍ معيّنةٍ بعد استقصاء ما يدور سياسياً واجتماعياً في البلد الذي ينتمي إليه الكاتب. بالمُختصر المفيد، إن شموليّة الرواية وثيماتها المتنوّعة وأساليبها المتجدّدة، تحدث الإمتاع والتشويق لدى قرائها، بعيداً عن الكتب النظرية المُملّة، بالنسبة للقراء ذوي مستويات الوعي المتوسطة والهشّة، وهذا ما يضاعف الإقبال على اقتنائها من المكتبات ودور النشر والمعارض، فضلاً عن دور مواقع التواصل في الترويج للرواية قياساً إلى أنواع الكتب الأخرى، ومن ثم يأتي دور الجوائز الكبرى المُخصّصة للرواية، فضلاً عن أنّ الإيقاع السريع لعصرنا أسهم في جعل الرواية رفيقة القارئ المحترف خاصة في حلّه وترحاله. كلُّ تلك العناصر، جعلت تسمية «الرواية ديوان العالم» أمراً منطقياً في حياتنا الراهنة.