الموكب الجنائزيّ

ثقافة 2024/01/30
...

 طالب كاظم

مثلما منحوتات رخاميّة انتصبت على جانبي طريق الموكب، تسمر جنود كتيبة الحرس الملكيّة وراء تروسهم البرونزيّة الثقيلة، محصنون بالحراب والسيوف القصيرة والتروس والخوذ الصقيلة اللامعة التي أخفت وجوههم المتجهمة، الكتيبة التي أحكمت قبضتها على طقوس أوروك الجنائزية التي تجسد موت الإله دموزي، صوت المزامير الحزينة الخافت والعويل الغريب الذي تصاعد في أوروك قبل أن يحل فجر يوم آخر يطل على أوروك العتيدة، فيما مواكب النساء المتفجعات تجوب الطرقات الصامتة ترثي بنواحها ذكرى هبوط الكالا، الموكلون باقتياد الأرواح إلى العالم السفلي هناك سيلتقي دموزي وجها لوجه ارشيكال التي تنتظره بصبر ينفد، شقيقة عشتار وابنة انو الممجد سيدة مملكة الموت، في يوم الحزن الكبير، أنهمك كهنة الإله تموز يرتلون أناشيدهم الجنائزيّة بنبرات حزينة يتقدم موكبهم  الفتى الجميل الذي لم يبلغ بعد عامه الرابع عشر، يجسد الإله تموز في مأساة موته، قيدت يداه بسلاسل فضيّة  بينما يجرجر ساقاه المنهكتان بخطوات متعثرة، ثمة خيط دم أخذ يسيل ببطء تحت القيد الذي أطبق على كاحلي قدميه ، كان عاريا وخائفا، في حمى العويل والنحيب ، ألقت الفتيات المغرمات بأنفسهن يقبلن قدميه، اخريات لعقن الدم الممزوج بالعرق والغبار، بينما العذراوات الصغيرات لمسن بخوف وخشوع رمز خصوبته، في طوق محكم أحاط الكهنة بإلههم الصبي  معبودهم المنهك، هنالك امرأة حاولت أن  تحتضن الإله الصبي بذراعيها وتضمه إلى جسدها، لا يمكن لمعبودها أن يفنى دونما أن يمنحها بذرته المقدسة، فيما نساء عديدات مزقت أظفارهن جسد الفتي المقدس، في محاولة للامساك بأثر مقدس من بقاياه ، كان أقل كثيرا من أن يصمد وهو ينوء بخطواته تحت عبء السلاسل الثقيلة.
على جانبي طريق الشعائر المقدس، تحت أتون لهيب الشمس الحمراء، تصاعد نحيب النساء الحزينات عندما مر موكب الإله، الفتى الجميل  وهو يتعثر بخطواته على الممر المعبد، بينما انسابت حبات العرق  ببريقها الفضي على وجهه القمحي، كانت تتدحرج على صدره المضطرب، الذي اكتسى بلون الدم القاتم، لقد تسمر الرجال بحزن ينتظرون نهاية لآلامه، آلام الإله المفجوع بقدره ونهايته، عبر الصخب تصاعد نحيب النساء ونشيج الرجال وهم ينتظرون موت الإله الفتي، تلك اللحظة التي سيكرس فيها كهنة المعبد اولئك الرهبان الشبان لخدمة الهتهم، بعد أن تنسك الرهبان طوال عام من الحرمان عن كل ما هو مدنس، ينتظرون يوم بعد آخر اقامة الطقوس المقدسة، من أجل تكريسهم  كهنة في معبد الإلهة اينانا، الحزن الشفيف نحت على قسمات وجوههم الحليقة تغضناته الرقيقة التي اضفت على سحناتهم الحزينة الورع والخشوع، أرديتهم البيضاء الطويلة التي انسدلت على أجسادهم الضامرة باستثناء أكتافهم ببشرتهم السمراء المشدودة، وهم منهمكون في ترانيم التراتيل ، تتقدمهم المتبتلات اللواتي نذرن عذريتهن من أجل  تكريسهن كاهنات في معبد الإلهة الممجدة، عذراوات أوروك ممشوقات القوام حتى أن الأردية التي انسدلت على أكتافهن المستديرة واخفت أقدامهن الصغيرة تحت طياتها اللينة، لم تستطع إخفاء الأنوثة المتفجرة في أجسادهن الفاتنة، تصاعد صوت الطبول، مدويا ما أن اقترب موكب الإله من ساعته الأخيرة، من خيمة الأعمدة الذهبية المزركشة التي أقيمت في منتصف الطريق إلى معبد اينانا، خطوات الإله الفتي المتثاقلة وظلاله التي تمددت على الطريق المعبد بالآجر، بينما غمرت الشمس التي أخذت تتدحرج صوب الغروب جسده الضامر بغسقها الأرجواني الشاحب، خطوة بعد خطوة ، فيما الإله يدنو من خيمة القربان، تصاعد نشيج النساء المفجوعات، كما أخذ كهنة الإله يرددون التراتيل بجزع شديد، في هدير الأبواق العظيمة وهي تطلق صراخها في فضاءات أوروك التي اختنقت بالصراخ والعويل، وضربات الطبول المدوية التي ابتلعت صخب الحشود القلقة، كانت المباخر الذهبية تنفث دوامات الدخان الثقيل المعطر بالبخور، ترسب العرق الممزوج بالغبار والملح، على الأجساد المنهكة، وهي تعبر ممر الأحزان بخطواتها الأخيرة تحت رايات المعبد المقدس، معبد اينانا، السيدة شفيعة الامهات واللبوة الشجاعة إلهة أوروك، تسمر الفتى المنهك كالحجر ما أن  رأى المخلوقات المخيفة وهي تغادر الخيمة، كانت تدور حول نفسها كالزوبعة وهي تطلق صيحاتها المتوحشة المبتورة، تلوح بحرابها القصيرة تتوعد الكهنة بالموت، أنهم يجسدون مخلوقات الكالا التي ستقتاد الإله إلى مملكة الموت، إلى أيرش كيكال سيدة عالم الضياع والموت، الملكة البغيضة التي تقتات على أرواح الموتى في مملكتها المعتمة ، ابتعد الرهبان المنهكون عن الإله الصبي المذعور بالأحرى تركوه لوحده يواجه مصيره وهو يتطلع بخوف في المخلوقات التي وضعت على أجسادها جلود الخنازير والأفاعي بينما أخفت وجوههم الأقنعة التي جسدت رأس النسر زو، طائر الموت، بينما أطبق الصمت على حشرجات الصخب، لم تعد هناك سوى أحداق خائفة ووجوه مذعورة تنتظر الطعنة القاتلة، انقضت الكالا على الفتى، الإله الذي حاول دونما جدوى الهروب من قدره حينما اقتادوه إلى جوف خيمة القربان، توهجت المشاعل بنيرانها الشاحبة تنير المشهد المؤلم، ما أن أغلقت الخيمة على الإله حتى تفجرت صرخة هائلة في الصمت الثقيل الذي خنق أوروك بقبضته المتحجرة ، بينما انتفض بغضب الثور الأبيض الذي خرج مترددا من بوابة الخيمة الآخر، يحدق في التروس الداكنة التي رصت واحدة جنب الأخرى، لهيب المشاعل الشاحب وبقايا تقاطيع الوجوه المذعورة التي غرقت في ظلام الفجيعة، وبريق الحراب المشرعة، أطلق الثور الأبيض خوارا صاخبا، فيما قوائمه المضطربة تضرب بعنف الممر المعبد بالآجر، الثور المقدس، تجسيد قربان الموت واضحية الاله. ارهقت العتمة عيني الثور الغاضب  الذي قذف ببنيته الضخمة وخطمه المزبد وقرونه الملتوية صوب التروس، على بعد خطوات تربص رجل الكالا بحربته الصقيلة ينتظر الثور المجنون، الإله الضحية الذي يحاول الفرار من قدره ، كالبرق اخترقت الحربة، السنام اللين وهي في طريقها عبر كتف الحيوان السميك لتستقر في قلبه، في طعنة متمرسة واحدة أجهزت على الثور القربان، غرق الحيوان الصريع في بركة الدم القرمزي، جثة هامدة دونما حراك، بينما تعالت صرخات الرهبان وهم يصعدون نشيجا قاسيا يندبون الإله الصريع، هنالك من مزق أرديته الكهنوتية حزنا على الإله الممزق وهو يضرب فخذيه بعنف وقسوة ، فجعهم مشهد الثور الصريع، الإله الضحية وبركة الدم القرمزيّة، أنين المزامير، وضربات الطبول الجنائزية، عويل النساء، والنحيب المختنق الذي تصاعد عبر الحشود الحزينة ، مخلوقات الكالا وهي تلوح متوعدة بحرابها البرونزية القصيرة، مراثي كاهنات معبد اينانا الممجدة، جلود الخنازير والأفاعي، مخالب طائر الموت زو، هدير الأبواق النحاسية العظيمة، في لحظـات التوحد تلك، لم يعد الكهنة يدركون من ذواتهم سوى السراب، لقد أخرج أحد الرهبان العراة، مدية قصيرة لمعت ببريق نيران المشاعل المضطربة ، في لحظة من نوبات الوجد والتوتر الهائل، مرر تلك المدية على صدره لتترك جرحا عميقا من أسفل الثدي الأيسر حتى السرة، ثم ختن نفسه، إذ تخلص من اللحم المتغضن الذي تدلى من ذكورته، بخشوع وصمت مرر الرهبان الآخرون تلك المدية على صدورهم العارية، الحد المرهف ترك جرحا عميقا نازفا، واحدا بعد الآخر ختن الرهبان أنفسهم، ما أن تمت طقوس التكريس، عد الرهبان الشبان، كهنة واكليروس الإلهة العظيمة عشتار الممجدة ، دخل الرهبان العراة المعمدون بالدم والنحيب عبر البوابة الذهبيّة المقدسة إلى فناء معبد اينانا وهم يرثون معبودهم الإله تموز، ما أن علنت نهاية الشعائر الجنائزية وطقوس التكريس وأغلقت بوابات المعبد، حتى انساب الهدوء إلى طرقات أوروك. بينما تسلل الرجال إلى الحانات للتلذذ بشرب نبيذ المعتق والجعة بمذاقها المر ومداعبة الراقصات العاريات في الحجرات الضيقة الظليلة وراء الكواليس ببضعة شيقلات فضيّة، كما هي في ابدا طرقات أوروك الصاخبة تستعيد صخبها وعنفوانها المعتاد.