هل القرآن الكريم معجزة؟

ثقافة 2024/01/31
...

شاكر الغزي



(1)

في قواميس اللغة، تشتقّ كلمة معجزة أو معجز من العَجْز وهو الضعف أو القصور وعدم القدرة على الإتيان بالفعل؛ ولذا فنقيض العجز هو القدرة.

أما في اصطلاح علم الكلام الإسلاميّ، فللمعجزة تعريفات كثيرة، لعلّ أدقّها هو:

(أمرٌ خارقٌ لنواميس الطبيعة، مطابقٌ لمقتضى الدعوى، مقرونٌ بالتحدّي).

وقد يزاد أو ينقص من هذا التعريف، ولكنّ هذا هو القدر الضروري الذي يشتمل على شروط المعجزة الأساسية:

1 - خرق نواميس الطبيعة:

ومعنى ذلك أنّ المعجزة تخرق قوانين العالم الطبيعيّ، وقد يقال أمر خارق للطبيعة، وهو بذات المعنى، وغالباً ما يقال خارق للعادة، فإذا كان المقصود ما اعتاده الناس في عالمهم الطبيعي، فهو، وإلّا فإنّ قول بعضهم بخرق المعجزة لعادة الله (قدرة الله) في الكون، قول مرفوض. 

وهنا ثَمَّة كلام عن العلاقة بين الأسباب والنتائج (قانون العِلِّية في الكون)، أهي على نحو الضرورة والحتمية أم على نحو التتابع الملحوظ، وعلى أيِّ حالٍ، فإنّ خرق المعجزة للقانون الطبيعي إمّا أن يجري ضمن إطار قانون أعلى حاكم على القانون المعتاد، أو أن يخرق القانون المعتاد بإرادة الله، ولكنه في كلّ الأحوال لا يخرق بديهيات العقل والمنطق مثل استحالة اجتماع النقيضين، وبالتالي فهو يقع خارج دائرة المحالات العقلية، وضمن دائرة قدرة الله المتحكمة في الكون.     

2 - مطابقةُ الادّعاء:

قالوا إنّ الادّعاء يجب أن يكون لأحد المناصب الإلهية (النبوة والإمامة)، والذين لا يؤمنون بالإمامة قالوا هو ادّعاء النبوة فقط، والأصح أنه مطلق ادّعاء الارتباط بالقوة الغيبية العليا التي لها القدرة على خرق نواميس الطبيعة، كما فعل آصف بن برخيا، ومطابقة الادّعاء تعني أن المعجزة سارية في اتجاه دعم وتصديق الادّعاء وليس في اتجاه نقضه ومعارضته، ومن المطابقة أيضاً، أن تحدث المعجزة في الزمان والمكان اللذين يحدّدهما المدّعي وعلى النحو الذي يدّعيه.  

3 - التحدّي:

بمعنى أن الادّعاء يجب أن يقترن بتحدي الناس لمقابلته بالمثل، والإتيان بمثل ما أتى به المدّعي من خارق العادة؛ وعليه فصدور بعض خوارق العادات من الأنبياء والأئمة لا يعدّ معجزةً حين لا تكون مقرونة بالتحدّي، كما هي الحال مع عدم إحراق النار لإبراهيم؛ إذ لم يكن إبراهيم في مقام التحدي حينها.

والتحدّي يكون بالقول الصريح من قبل المدّعي أنّ الدليل على صحة ادّعائه هو عجز الآخرين عن الإتيان بمثل ما يفعله.

ويندرج تحت هذا الشرط: عدم قدرة الناس على الإتيان بالمثل، والحقيقة أنّ هذا هو ما أكسبها تسمية المعجزة، إذ يبدو أنه نتيجةٌ لتحقق الشروط الثلاثة، ولكن على فرض تحقق الشروط السابقة (كون الفعل خارقاً لنواميس الطبيعة، مطابقة الفعل للدعوى، وكون المدّعي في مقام التحدي)، وكان هناك من له القدرة على الإتيان بمثله ــ وإنْ لم يدّعِ شيئاً ــ لا يكون هذا الفعل معجزة.

وقد ذُكرت شروط أخرى كلّها مُتضمَّنة في هذه الثلاثة الأساسية، ولكن لا بأس بالإشارة إلى هذا الشرط المهمّ وهو: تأخّر المعجزة عن الدعوى؛ إذ إنها بمثابة الشاهد، ولا يقوم الشاهد إلا بعد قيام الدعوى.

بقي أن نشير إلى أن كل التعاريف المذكورة للمعجزة لا تخلو من مناقشة وإشكال، ولكن ما ذكرناه هو أدنى ما يتقوّم به الكلام، وهو الأرجح والأنسب في ما نرى، وإن كان توضيح ذلك يحتاج لمزيد من الشرح والتفصيل.

ومن التعاريف الأخرى المذكورة للمعجزة:

- أمر خارق للعادة مقرون بالتحدّي سالم من المعارضة يظهره الله على يد رسله.

- كلّ حادث من فعل الله أو بأمره أو تمكينه ناقض لعادة الناس في زمان تكليفٍ مطابق لدعوته أو ما يجري مجراه. 

- أن يأتي المدعي لمنصب من المناصب الإلهية بما يخرق نواميس الطبيعة ويعجز عنه غيره شاهداً على صدق دعواه. 

- أن يحدث النبي تغييراً في الكون، يتحدى به القوانين الطبيعية التي ثبتت عن طريق الحس والتجربة. 

- الفعل الإلهي المباشر لتصديق النبيّ في مقام التحدي.


(2)

والآن، في ما يتعلق بالقرآن الكريم، الذي يعتبره التراث الإسلامي معجزة النبيّ محمد الخالدة، نسأل: هل تنطبق عليه الشروط الأساسية الواجب توافرها في المعجزة والتي مرّ ذكرها؟.

وللإجابة عن ذلك، نستعرض الشروط الأربعة مع قليلِ مناقشةٍ وبعضِ تبيان.

فأولاً، نلاحظ أنّ تحوّل العصا إلى حيّة تسعى هو أمر خارق للقانون الطبيعي، وكذلك إحياء الموتى وانشقاق القمر، أما الإتيان بنصّ سرديّ مهما كان عالياً فنياً، فلا يُعدّ خرقاً للعادة أو لنواميس الطبيعة، ففي النهاية هو مجرّد كلام (ألفاظ ومعانٍ في سياق تركيبيّ خاص) بلغة عربية، فهل خرق قانون التأليف المعتاد؟ وهل هناك قانون كونيّ للتأليف ليخرَق؟ وهل الإعجاز مختص بخرق قوانين التأليف باللغة العربية أو بكل اللغات؟ وهل الخارق للقوانين هو أن يأتي رجل أميّ من بيئة بسيطة بكتاب يدّعي أنه من السماء، لا عهد لأحد من الناس (أيّ ناس؟ مجتمعه فقط أم عموم البشرية؟) بمثله؟.

هنا، نجد أن الجدال تحوّل من خرق لنواميس الطبيعة إلى الخوض في تفاصيل إعجاز القرآن بوصفه كلاماً عربياً، فتارةً قيل هو معجزةٌ في بلاغته، وتارة قيل هو معجزة في نظمه، وثالثةً قيل هو معجزة بما أخبر عنه من أنباء الغيب والقصص، وبقليلٍ من التأمّل والتحقيق يتّضح أنْ ليس في الثلاثة ما هو خرق للقانون الطبيعيّ، ناهيك عن أنّ القرآن لم يصف نفسه بأنه بليغ، ولا ادّعى أنه معجزة بلاغية.

أما إتيان النبيّ الأميّ بكتاب مختلف، فيُرَدّ بكلامٍ كثير حول أميّة النبيّ، وأن ذلك الإتيان نفسه قد يكون مدعاة للتشكيك بأنه تلقّاه من معلّم أو من الجنّ، والأهمّ من ذلك كلّه أنه لم يأتِ بكتابٍ تامّ كامل بل بآيات متفرّقة.

وثانياً، فصحيح أن القرآن منسجم مع دعوى النبوة، التي هي في فحواها لطفٌ إلهيّ، ولكنه لا يدعم ادّعاء المدّعي أنه نبيّ، فضلاً عن كونه مرسلاً من الله دون غيره، على أنه في ساعة ادّعاء النبوّة لم يكن مع النبيّ إلا بضعة آيات وليس كلّ القرآن ككتاب واحد، وعلى التسليم بكون القرآن كتاباً واحداً لحظة الادّعاء، ففي القرآن من الآيات الكثير ممّا لا ينسجم مع اللطف والرحمة والخير ــ التي هي لوازم النبوة ــ إلا على نحو التأويل ــ المعمول به في فهم القرآن ــ غير أن المعجزة لا بدّ أن تكون واضحة الدلالة، وحاجتها للتأويل تنفي عنها صفة المطابقة للدعوى ودعمها وتصديقها.


وأما ثالثاً، وهو الأهم في هذا المقام، فهل حصل التحدّي بالقرآن الكريم؟

لا نحسب أنّ ذلك تمّ على أرض الواقع، فلم ينقل لنا التأريخ أنّ النبيّ جمع مشركي قريش، فضلاً عن سائر العرب، ناهيك عن عموم الناس، وقال لهم هذا الكتاب هو الدليل على صحّة نبوّتي وأتحداكم أن تأتوا بمثيل له!.

على أنّ الكتاب ــ الذي هو القرآن ــ نزل على النبيّ منجّماً على مدى ثلاث وعشرين سنة، وآخر ما نزل منه كان في حجة الوداع قبل وفاة النبيّ بقليل، وعليه لم يتمّ الكتاب إلا بعد ذلك الوقت؛ ليصحّ أن يقال إن هذا الكتاب ــ الذي تم للتوّ ــ هو معجزتي، وآنذاك لم يكن ثمّة حاجة للتحدّي إذ كان الناس يدخلون في دين الله أفواجاً.

وما يُحتجّ به هنا، هو آيات التحدّي الواردة في القرآن، وهي أربع آيات، زعم بعضٌ أنّها تدرّجت من الأشدّ إلى الأسهل، أي من التحدّي بالقرآن كلّه إلى عشر سور ثمّ إلى سورة واحدة، ونفى آخرون أن تكون تدّرجت بل نزلت في مناسبات مختلفة.

والآيات بحسب النزول كالتالي:

1 - ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً﴾ [الإسراء 88].

2 - ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [يونس:38].

3 - ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [هود:13].

4 - ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة:23-24].

وواضح أنّ التحدّي في الآيتين الأولى والرابعة من الله وليس من النبيّ، على أنّ تحدي كلّ بني الإنسان ومعهم كلّ بني الجنّ يستبعد أن يكون التحدي منحصراً في إطار اللغة العربية فضلاً عن أن يكون منحصراً من العربية في بلاغتها فقط، إذ يقبح تحدٍّ كهذا لمن لا يتكلمون العربية.

أما تحدّي النبيّ فهو أن يأتوا بسورة أو بعشر سور، وبالتالي فلم يكن التحدي بالقرآن كله، وحينذاك لم يكن نزل من القرآن إلّا أقلّ من نصفه فقط.

بقي أن نشير إلى أن المعجزة بمثابة الشاهد على صحة الدعوى؛ فهي متأخرة عنها، في حين أنّ أول ما نزل من القرآن (اقرأ) ثم (يا أيها المدثر) سبقا دعوة النبيّ وإعلانه لنبوته، إذ كان ذلك بعد نزول (وأنذر عشيرتك الأقربين) حين قال لهم: أَرأيتَكُم لو أخبرتُكم أنّ خيلاً بالوادي تُريد أن تُغير عليكم؛ أكنتم مُصدقيَّ؟ قالوا: نعم، ما جرّبنا عليك إلّا صدقاً، قال: فإنّي نذير لكم بين يدَيْ عذاب شديد.


(3)

إذن، ليس القرآن بمعجزة!

بالمعنى الاصطلاحي، نعم، فليس فيه شيء من شروط المعجزة المذكورة، أما بالمعنى اللغويّ فلا شكّ أنّ القرآن معجزٌ، ولا يتأتّى لأيّ مخلوقٍ الإتيان بمثله أبداً؛ إذ إنّ فيه إعجازاً لا يخفى وإنْ تعسّر على البعض إدراك كنهه.

وهنا دار كلام حول التفريق بين المعجزة والإعجاز، فالذين لا يرون أن القرآن معجزة ــ بالمعنى الاصطلاحي لمعجزات الأنبياء ــ يجزمون أنّ فيه إعجازاً جليّاً.

وفي النهاية، ينبغي أن لا يُفهم أننا لا نقول بكون القرآن معجزةً ــ أو معجزاً ــ في ذاته، بل كونه معجزة نبوية بالمعنى الاصطلاحي، إذ لا شكّ أنّ إعجازاً ما فيه يجعل عصياً على الغير الإتيان بمثله، وسرّ هذا الإعجاز أنه كلام الله الخالق (خالق الإنسان والكلام) فكيف لمخلوق (إنسان أو جنّ أو كلام) أن يضاهي قدرة الخالق أو يدانيها حتّى.

هذا هو سرّ إعجاز القرآن من جهة الصدور، أما من حيث هو كلام، فإعجازه ليس بلاغياً كما هو المُتوهَّم، بل هو إعجاز وجدانيّ كما يرى الباحث أحمد القبانجي، أي اشتماله على نغمة الأُلوهيّة التي تتجلّى في شخصية المتكلم وفوقيته وخطابه الذي يثير في أعماق الوجدان الإنساني حالة معنوية عالية نتيجة سقوط الأنا والعناوين الزائفة أمام الحقيقة الشاخصة والوجود المطلق.  

على أنني شخصياً أرى أنّ إعجاز القرآن من حيث هو كلام هو إعجاز بيانيّ، بمعنى أنّ تعبيره هو التعبير الأوحد والأدقّ في بيان الحقائق على وجهها الصحيح دائماً وأبداً، مهما تغيّرت الأزمان والأمكنة وسبل التعبير عن الأشياء والأحداث والحقائق، وهذا هو السرّ، أيضاً، في اختيار العربية لغة للقرآن.