مسلّة الجراد

ثقافة 2024/01/31
...

طالب كاظم
تسللنا خلسة، كلصين من دون أن نلفت انتباه حراس الثكنة المحصنة، عبر البوابة الكبيرة، التي أعدت للجنود وللرعاة الحفاة وهم يطلقون صيحاتهم المعهودة التي تحث الخراف والجداء الصغيرة على الجري صوب الحقول الوفيرة، التي امتدت أمام جدار متنزه الزوراء،  بقضبانه الحديدية العالية، كما يمكنك أن تشعر بالحزن والألم يعتري ذلك الزئير الهزيل الذي يشبه عواء مريرا، بينما شارع دمشق يضج بزمجرة تروس محركات السيارات التي تحاول اللحاق بالقطيع، ستشعر بوطأة الاختناق ما إن تتطلع إلى الزواحف الفولاذية المحشورة في الحيز الضيق، بينما أعمدة مداخن الكبريت والزيت الأحفوري تتصاعد كما لو كانت فوهات تصعد زفير الخليقة، لحسن حظنا، لم نلفت انتباه الحراس الذين تدثروا بمعاطفهم الصوفية الطويلة، بعضهم انشغل بدعك يديه قرب لسان لهب داخن تصاعد عبر نيران برميل صغير من الصفيح أعد كموقد لحرق الجذوع المبللة التي انتزعت من شجرة السدر العجوز التي أطاحت بها الشيخوخة، بينما أحدهم، لم نر سوى عينيه اللامعتين، إذ عصب رأسه بخرقة ملونة، انهمك بغلق أزرار معطفه النحاسية حينما عبرنا بوابة الجنود تلك، بشعرنا الفضي ككهلين في نهاية عقدهما السادس، يتطلعان إلى الآخرين بتجربة كبيرة من اللاجدوى والحنق . 

سنذهب إلى هناك ؟

لا سنذهب إلى هناك، إنها الوجهة الأقرب، رد وهو يسلك الممر صعودا، الأمر الذي اضطرني إلى تغيير وجهتي واقتفاء أثر خطواته المتمهلة.

نوبة السعال الشديدة فتكت بصدره الناحل عندما لوحت للباص الأحمر بطابقيه الذاهب إلى غرب المدينة، إلا أن الرجل خلف المقود، لم يكلف نفسه عناء التطلع إلى الرصيف المعبد بالحجارة، عندما يلوح كهلان بيديهما لإنقاذهما من العزلة، وهما في الطريق للحاق بموكب الحجيج ليلقيا النظرة الأخيرة على الإله مردوخ، فاحتفالات أكيتو المقبل لن تقام إلا بعد عشرين عاما، ستكون فيها أجداثنا قد صارت يبابا .

تردد في اللحظة الأخيرة التي حاول فيها أن يخبرها بما يشغل تفكيره، كما يحدث في كل مرة،  تراجع وهو يحنط كلماته بالصمت.  

لا يمكنك إنقاذي بالرغبة وحدها، عليك أن ترشديني إلى نهاية ما.

بصمت انزلقت عيناه بنظراته الغائمة تجوب تقاطيع وجهها الجامدة، كان وجها باردا وشمعيا خاليا من التعبير. بلامبالاة تطلعت عبر الواجهة الزجاجية، التي تلقت وابل المطر العنيف الذي انهمر فجأة، كان باطن يده دافئا وهي تستل أصابعها، هي تدرك أنها مصفّدة بحياتها، باهتة الملامح، طالما الحظ السيئ يطاردها كظل سميك لا تستطيع النفاذ عبر قشرته الصلبة.

لا يمكنك إنقاذي!

أنصت إليها وهي تهرب من نظرات عينيه التي اتسعت حتى انعكس وجهها الشاحب في حدقتيه السوداوين . 

الفتى الجميل، وجد نفسه، مرة أخرى، سجينا بسبب وشاية المرأة  المتصابية التي استحوذت عليها الرغبة الجامحة بمعاشرته، كاد أن يستسلم للرغبة التي استعرت في جسده حينما أطبقت عليه باشتهاءاتها، لو لم ير ظلال شبح الرجل المسن، الذي تجسد أمامه عند طرف السرير الفخم، المزين بالغلالات الحريرية الشفافة وأزاهير اللوتس الذهبية، وهو يعترض طريقه بإظهار باطن كفه في وجهه، بلحيته الرمادية الكثة التي استرسلت على صدره الضامر، بعينيه الكليلتين، توعده بسخط الرب إن دنس روحه بالخطيئة، انزوى الفتى مذعورا، برغم أن الرغبة أشعلت في عروقه حرائقها المستعرة، حتى انتهى به الأمر سجينا في قبو معتم. إنها القصة نفسها مرة أخرى، حينما ألقت به الخطيئة في البرية الموحشة بانتظار المصير المفجع، ولكنه كان مباركا، من قمة رأسه حتى أخمص قدميه، بسبب الحياء الذي اعتراه، أمسك يده، حينما حاول رفع أذيال ثوبه الطويل، فترك ثوبه منسدلا يتعثر بأطرافه الطويلة، ملطخا بالوحل الآسن بقوامه الكثيف اللزج، التي غطت أقدامهم العارية المتقرحة، بينما سجناء القبو العفن، لم يتبين تقاطيع وجوههم بسبب العتمة، يتغوطون ويتبولون في الانزواء، بينما تزحف الديدان فوق سيقانهم الهزيلة، ينتظرون الموت، حينما يقتادونهم، للمرة الأخيرة إلى مصطبة الموت الملطخة  بدم الرؤوس المقطوعة المتجلط .

سيخدعك مظهره المموه، بأرديته الناعمة الفضفاضة، بلحيته البيضاء وشعره الفضي الطويل الذي استرسل على كتفيه، بخطواته المتمهلة، يبدو كأحد الأسباط الاثني عشر، وهو يتفقد عشيرته وأتباعه، الذين انتظروه بصبر لا ينفد عند حافة الطريق المعبد بالحجر والآلام،  تطلعنا بحزن ممض إلى البيوتات البغدادية القديمة المهجورة  في حارة التوراة، التي شهدت لقرون عديدة مرت، أفول نجوم عوائل تلمودية، يمكن تتبع أثر أسلافها حتى الجذر الأول حينما قادهم العاهل البابلي إلى سيدة المدن وقلب الأبعاد الأربعة، ترعرع الأحفاد على ما ورثوه من أسلافهم الأوائل، العديد منهم امتهن الصيرفة، غير مبالين بتذمر المزارعين الذين أنهكتهم الفوائد الكبيرة التي ألحقت بالديون، حين نال الجفاف من حقولهم قبل أن يحين موسم الحصاد، الأمر الذي ألحق بهم خسارات كبيرة، اضطرت بعضهم إلى بيع صبيانهم وبناتهم مقابل شيقلات فضية معدودة لتسديد ما بذمتهم من ديون لعائلة شالومين، إنها البيوتات المهجورة التي تنتظر سببا تافها لتتقوض على نفسها ككومة قمامة من الأعمدة الخشبية المنخورة. كنت حذرا وأنا أحاول أن أكتم العطاس بسبب العفن الذي استنشقته ونحن نتفقد خطواتنا تحت ظلال شناشيلها المزخرفة بخشب الصاج، بشبابيكها الضيقة المشرعة على الحطام، باستثناء الصليب الذي يعلو كنيسة السبتيين المهجورة في حارة السنك، حيث دلفنا إلى الأزقة الضيقة عبر الممرات المحشورة بين الدكاكين والمتبضعين وهم يبحثون عن قطع الغيار لعرباتهم الكسيحة، بين صناديق الخشب المدموغة بأحرف وأرقام إنكليزية، وأحراش وأجمة الأنابيب البلاستيكية والكوابح وزيوت المحركات والتروس الفولاذية والصواميل، حيث قادتنا خطواتنا إلى ممر المنفذ الجانبي، الذي يطل على الطريق الصاعد إلى الكرخ عبر قنطرة السنك التي تجسر جانبي المدينة التي ضلت طريقها إلى الخلاص، المدينة التي تتذكر، بألم فت في عضدها، يوم أغارت عليها أسراب الجراد الميكانيكي والزواحف الفولاذية التي أخذت بنهم تقضم روحها المعذبة، هاهي المدينة الضالة، مذ ذلك اليوم المشؤوم تعاني من وطأة الصدمة الشديدة، التي تلقتها بذهول أفقدها القدرة على التحكم بمشاعرها المضطربة وأحاسيسها، إذ جثت على ركبتيها وهي تعول، بينما النشيج يجف في صدرها الضامر الذي اختنق بالصراخ، في تلك الظهيرة تمكن الصبي من صرع جالوت عندما قذفه بحجر فلق صدغه، فساح دماغه يلطخ ملامح الرعب والذعر التي اعترت وجهه. نتذكر صوت بوق الدينونة الذي أطلق دويا عظيما، يحذر الجناة من أبابيل عادت بحجارة من حديد وبارود، ستصيب سلالتهم الضالة بالصمم والذهول. 

بعد لحظات صمت، توقفت عربة ضيقة في طريقها إلى الجانب الآخر من النهر القديم، دلف إليها بجسمه الضخم وهو يتطلع في وجهي مبتسما، عندما افترقنا عند الجسر، لوحت له بيدي مودعا. وواصلت طريقي عبر شارع الجمهورية، ثم انعطفت إلى اليمين، عبر الزقاق الضيق الذي قادني إلى بقايا سينما غرناطة، التي لم تزل ممسكة بقشة ذكرياتها الغابرة عندما احتفظت ببقايا بوستر فيلم قديم عالقة بحائط متسخ، يمكنك ترميم بقايا أحجية الأحرف اللاتينية مستعينا بذاكرة مهشمة لكي تقرأ: الشمس الحمراء تحت ظلال واجهتها العالية التي تبدو كمقدمة سفينة نوح، يمكنك قراءة الكلمات العربية: غرناطة، كأيقونة لزمن غابر، هناك تحت الظلال العميقة للخطيئة يحتشد المريدون والأتباع والمجوس واللصوص والمحتالون. كنت أجدف بلعنات كبيرة، متضرعا لو أن الرب يقوم بما يتعين عليه أن يقوم به، أن ينفذ شيئا من وعيده، علّه يفعل ذلك ويصد شرور البرابرة بطوفان آخر يعيد تشكيل صلصال السيرة الأولى، علّ التجربة المريرة التي مررنا بها تجعلهم أكثر حكمة، ولا يقترفون الآثام التي دنست سيرتنا المتعثرة .