أديب مخزوم.. تعبيرية على سطوح التجريد

ثقافة 2024/02/01
...

  هويدا محمد مصطفى

نعثر دوما على بعض الروابط الخفية التي تجمع ما بين اهتمامات أديب مخزوم الأولى، والحالية، حيث كان يجاهر ومنذ البداية بتمسكه بالأحلام والهواجس الصحافيّة والتشكيليَّة والموسيقيّة والشعريَّة، التي عرفها وشغف بها.
هذا الفنان والناقد التشكيليّ والمؤرخ الموسيقيّ السوريّ ينتمي بكل عواطفه وأحاسيسه ومعطياته الثقافيّة والفنيّة، إلى لبنان الحضارة، وبيروت جسر التواصل بين الغرب والشرق، وعاصمة الثقافة والإعلام والفن والنقد والتمدن والرقي والانفتاح.. لقد كان يتابع المجلات والصحف والأقنية التلفزيونية اللبنانية، وعدت الصحافة اللبنانية مدرسة كبيرة بالنسبة له، فقد اكتسبت الكثير من الخبرة المهنية على صعيد تطوير النص التحليليّ والنقديّ، كما يقول مخزوم "لولا صحافة بيروت كنت بدوياً ".
بداياته الفنيّة كانت منذ الصفوف الأولى، وهو ينسخ رسومات مناهج الدراسة الابتدائية فنان الطفولة الأول ممتاز البحرة، وحين أصبح في مرحلة الإعدادية بطرطوس، كان يشاهد لوحات ورسومات الراحل الكبير عمر حمدي في الصحف والمجلات، وهذا ما جعله يتعلق أكثر فأكثر بالفن التشكيليّ، وبدا يشارك في مرحلة الثانوية بالمعارض الفنية في المركز الثقافي بطرطوس، كما كان يتابع مقالات الناقد اللبناني الكبير فيصل سلطان والناقد السوري صلاح الدين محمد، الشيء الذي جعله يمتلك حساسية بصريّة ونقديّة، دفعته فيما بعد نحو الكتابة في الصحافة العربية والمحلية، بتشجيع وإلحاح
من الناقد صلاح الدين محمد.  
وفي هذا الشأن يقول مخزوم: بأن الراحل الكبير صلاح الدين محمد غير مجرى حياته، حينما أتى إليه في منتصف الثمانينات فناناً وخرج من عنده ناقداً، ويضيف أنه "تعلم من فيصل سلطان أبجديّة وتقنيّة الكتابة النقديّة، أما صلاح الدين محمد فأعطاه تأشيرة الدخول إلى عالم الكتابة في الفن التشكيليّ حين نشر له أول مقالة في منتصف الثمانينات".
لقد خاض غمار تجربة فنيّة طويلة، ورسم آلاف اللوحات، التي حاول من خلالها تجسيد تداعيات أحلامه، ومن ضمن صياغات متفاوتة بين الواقعية والانطباعية والتعبيرية والتجريدية المشحونة بغنائية اللمسة اللونية العفوية والتلقائية التي وصلت في لوحات مرحلته في نهاية الثمانينات إلى أقصى حدود التجريد الانفعاليّ الحركيّ، ولهذا نمت في علاقته بالفن التشكيليّ مودة خفية، تجاوزت حدود التعامل مع الريشة والألوان وسطح اللوحة، لقد أدخلته ومنذ منتصف الثمانينات، في اطار الكتابة الصحافية النقدية (وخاصة في التشكيل والموسيقا والغناء).. حتى توج مسيرته النقدية بكتاب نقدي ومرجعي وموسوعي صدر في دمشق مطلع عام 2010 تحت عنوان (تيارات
الحداثة في التشكيل السوري).
ذهب مخزوم في لوحاته الفنية الحديثة، إلى أبعد من الظواهر الخارجية، نحو أبعاد جمالية تقطف إيماءات حالة داخلية عاطفية تبرز في لمسات اللون العفوي وتساعد على تحقيق الانفلات، من إطار رسم تقليدي يتطلب درجة من الوعي والتركيز والدقة في العمل.. كل ذلك في خطوات الوصول إلى رؤى تشكيلية متطورة ومعاصرة تحمل المستجدات الثقافية اليومية، وتهتم بمسألة التماهي مع لغة العين حتى ضفاف إبداعية تحرك وبقوة انطباعات مقروءة في العمل الفني عبر الكشف عما يثير ويحرض الفنان والمتلقي معاً .
هكذا خاض مخزوم غمار تجربة الرسم، لقد كانت مشاعر الإحساس بجمالية اللوحة الفنية التشكيليَّة، تدفعه باستمرار نحو اختبار قدراته، حيث أنجز آلاف اللوحات الكبيرة (زيت واكريليك على كانفاس) وتدرج في صياغاتها من الرسم الواقعي، إلى أقصى حالات التجريد اللونيّ الانفعاليّ، مروراً بكل الاتجاهات الفنيّة المعروفة، إلا أنه استقر في مراحله الأخيرة على التعبيرية المبسطة، وموضوعه المفضل امرأة على خلفية لونية تجريدية، ولقد استعاد شيئاً مما ترسخ في ذاكرته من ايقاعات حيّة قادمة من تأملات طفولية لقوارب المألوفة على شاطئ البحر في مدينته طرطوس (ورمز إليها بقوارب ورقيّة جسدها في لوحات معرضه بدار الأوبرا عام 2016)، أما معرضه الفردي الثاني في دار الأوبرا بدمشق 2020 فحمل عنوان "بكائيات الحرب والأقنعة والانبعاث الجديد"، وأهم مشاركاته كانت في بعض دورات معرض الخريف السنوي للفنانين السوريين المحترفين، وخاصة في الأعوام الأخيرة، واللوحات التي عرضت أصبحت من ضمن مقتنيات وزارة الثقافة، وبالتالي أصبحت مهيأة لدخول متحف الغد للفن السوري الحديث المزمع افتتاحه في دمشق.
لقد شكل معرضه في صالة المنتدى الاجتماعي في دمشق عام 2022 امتدادا لمعرضه في صالة الرواق العربي 2021، حيث طرح من خلالهما موضوع الأزياء الحديثة وخطوط الموضة وعلاقتها بلوحاته الفنيّة الحديثة والمعاصرة.
كما قام في الأعوام الأخيرة بتنظيم 14 معرض وندوة تكريمية.. ومن أبرز الذين كرمهم "العالمي جبران خليل جبران، وموسيقار الأزمان فريد الأطرش، ورائد الرسم الموجه للأطفال ممتاز البحرة، والفنان الراحل عمر حمدي، والناقد الراحل صلاح الدين محمد ، والفنان محمد هدلا، والفنانة ليلى رزوق، والباحث سلام طعمه وغيرهم".