حفيدتي المقنعة

الصفحة الاخيرة 2024/02/11
...

محمد غازي الأخرس

شيء طريف، أمس جاءتني حفيدتي وهي تحمل دميتها الصغيرة لتخيفني، كانوا قد وضعوا على وجه الدمية الجميل قناعاً مخيفاً.
تصنعتُ الخوفَ لأنَّ هذا هو المطلوب مني، ثم فجأة خطر في ذهني أنْ أحرّكَ القناع ليكون وضعه عكسياً.
فعلت ذلك فأصبح للدمية وجهان، وجه أمامي جميل هو وجهها، وآخر خلفي مرعب هو وجه القناع.
قلت الحفيدة - هسه صارت أم وجهين، ثم بدأت بإدارة الدمية إلى الجانبين محاولاً إدهاش الحفيدة، فكان أنْ نجحت في ذلك.
نعم، إنَّ الأمر لمخيفٌ حقاً، تخيّل أنْ ترى إنساناً ذا وجهين، أمامك يبدو وجهه رائعاً، وفي الخلف ثمة وجهٌ كريهٌ يتوارى.
لطالما سمعنا ذلك: فلان أبو وجهين، أو فلان بالوجه مرايه وبالكفه سلايه.
يقصدون أنَّه يتحدث أمامك بشكل، وفي ظهرك بشكلٍ مناقض. لا يقتصر الأمر علينا، بل نادراً ما يخلو مجتمعٌ عربيٌّ من أصحاب الوجهين، فهؤلاء موجودون دائماً، يقولون أمامك ما يناقض قولهم خلفك.
شخصياً أشرت إلى هذه ظاهرة الازدواج مرات عديدة، وفصلت فيمن تبنى الفرضية من القدامى والمعاصرين، ابتداءً من أبي حيان التوحيدي مروراً بالجاحظ وابن خلدون، وليس انتهاءً بجواد علي وعلي الوردي وسلامة موسى.
على أنَّ الأمر لا يقتصر على الاستغابة والنفاق الاجتماعي، بل الأخطر من ذلك تغلغل المرض فينا لدرجة أنه بنى شخصيتنا الثقافيَّة وليس الاجتماعيَّة فقط.
ترى الواحد منا متسامحاً في آرائه، يتقبل الاختلاف في الأمور الثقافية بشكلٍ يدعو للاحترام، لكن ما إنْ تناقشه في السياسة مثلاً أو الدين حتي ينقلب كأنه وحش، بل إذا أمعنت في استفزازه باختلافك عنه، قد يسارع إلى استعمال يديه.
حينئذ، تنظر إليه وتتساءل: أليس هذا المتوحش المستكلب نفسه الذي يناقشك بكل أريحيَّة في الوجوديَّة والليبراليَّة والأدب والشعر؟
أليس هو نفسه الذي يردد كل لحظة: قد أختلف معك في الرأي لكنني مستعدٌ للموت من أجل أنْ تعبِّرَ عن رأيك.
الطريف هذه الأيام أنَّ المرض يتجلي واضحاً صادماً لدى مشجعي كرة القدم، إذ يبدو الواحد منهم مستبداً برأيه ومتعصباً لفريقه بطريقة مريعة، بطريقةً لا تتناسب مع الصورة التي يظهر بها أمامك حين يحدثك في الثقافة أو الفن. جرّب أنْ تنتقدَ أداء ريال مدريد أو برشلونة أمام أحد مشجعيهم المتعصبين، ولو كان مثقفاً لطيفاً. سوف تتبخر الثقافة حينئذ ويسلقك سلقاً بالتهكم والتسخيف، والأمر يصل، من ثم، إلى المنتخبات الوطنيَّة والجدل حولها ولكم في ما جرى بين العراقيين والأردنيين دليل. كان الأمر بالفعل مصداقاً لا أوضح منه على فكرة "أبو وجهين": الوجه اللطيف المبتسم أمامك، والآخر المخيف المكشر عن أنيابه في الخلف. إنَّه قناع حفيدتي فتأمّل!