حسن عودة الماجدي
بدءاً بالمعاناة المريرة للشعب العراقي طيلة الاحتلالات الاجنبية قبل الرابع عشر من شهر تموز عام 1958، وعلى جميع الصّعد خصوصاً مع الفلاح العراقي، الذي فقد مقوماته الشّخصية كإنسان فاعل في المجتمع العراقي، ففي مطلع العشرينيات والثّلاثينيات بدأت هجرة الفلاح الجّنوبي إلى المدن الكبيرة، ومنها بغداد العاصمة التي احتوت الأعداد الهائلة من فلاحي الجنوب والفرات الأوسط، بعد أن تحوّلت ملكية الارض الاميرية الزّراعية المشاعة التي يسكنونها إلى ملكية خاصة باسم شيخ العشيرة، ممّا ولّد نظاماً اقطاعياً في الريف وهذا قد انعكس سلباً على الفلاح، حيث انتشر الفقر المدقع والظلم الطبقي في ريف الجنوب والفرات الاوسط فتركوه وبدأت الهجرة العارمة إلى بغداد وسكنوا أطرافها، متخذين من حصران القصب والبردي بيوتاً واهنة ومظلمة تسمى (صرائف)، أمّا الاعمال اليومية لسد الرّمق كانت أعمالا هامشية، أغلبها في المهن المتدنية والحقيرة، ولكن يرونها أرحم من ظلم شيخ العشيرة وطغمة الموامير والشّحنية، ففي المقابل من ذلك السكن يرون من حولهم أحزمة تحيط بمدينة بغداد من البنية الأساسية أعمال الصناعة والبناء والخدمات، وهذا ما يمثّل العالم الآخر المتباين مع أصحاب الصرائف، ذاك الذي تنتشر فيه القصور الفخمة والبيوت الكبيرة ذات الحدائق الواسعة في أحياء الوزيرية والسعدون والعلوية وبارك السعدون، فكان هنالك عالمان متناقضان بين أصحاب الصرائف خلف السدة، وبين الأحياء المذكورة، وهذا ما ينبئ أحاسيس غير المعاصرين من الظّلم والجّور والتبعية قبل الرّابع عشر من تموزعام 1958، لذلك يتبيّن ممّا تقدم أنّ الثّورة التّموزية لم تكن حدثاً عابراً، وانّما جاءت نتيجة تراكم هائل من الذّل والعبودية والهيمنة الامبريالية، حتى أنجبت القوانين الثّورية في الوهلة الاولى من النّجاح الباهر كقانون الاصلاح الزراعي الرقم 30 لسنة 1958م، الذي يعد ضربة الثّوار العنيفة لسلطة الاقطاع الجائرة، والذي وصف بأنه جوهرة المنجزات التّاريخية للثورة، من خلال تحقيق الأهداف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، اذ باركته القوى المؤتلفة في جبهة الاتحاد الوطني آنذاك، وعلى رأسها الحزب الشيوعي العراقي عميد الاحزاب والقوى السّياسية على الساحة العراقية، وكذلك الرديف الآخر القانون الرقم 80 لسنة 1961 الذي أصاب الشركات النفطية الامبريالية بالصّميم عندما حدد عليها مناطق التّنقيب، أمّا على صعيد الاسكان لأصحاب الصرائف، فحدّث ولاحرج بفترة قياسية قصيرة من تاريخ الثورة تبنى المدن العامرة كمدينة الثورة (الصدر حاليا) وشعلة الصّدرين وغيرهما من الصروح الماثلة حتى اليوم، وكذلك ايصال الماء والكهرباء في البيوت بعد أن كانتا حكراً على أمهاتنا المتعبات من اقتناء زر الكهرباء وصنبور الماء، في حين أنّ مفجر الثورة لا يملك داراً ولا سيارة إلى يوم استشهاده، ونتيجة لهذا المد الصاعد والفيض الرائد من الوطنية ونكران الذات لقائد الثورة الزعيم الخالد عبدالكريم قاسم، توجس الامبرياليون الخطر المحدق من خلال طرد القواعد العسكرية، كقاعدة الشعيبة والحبانية الانكليزيتين وتبديل العملة الاسترلينية بالعملة العراقية، ممّا كان ذلك ينذر بناقوس خطر على مصالحهم، لذلك أصبح الآمر مرهوناً للاطاحة بالزعيم وثورته الوطنية، لأنّه أي الزعيم في نظر الامبرياليين قد اكتسب حكماً وشعبية لا تقهر، لذلك تخالفت أيادي الشر الخارجية مع الدّاخلية ومع الجمهورية المصرية، من خلال بوقي التآمر لصوت اللّاعراب ( أحمد سعيد وحسنين هيكل، وعلى رأسهم بطل العروبة الوهمي الذي قال في خطابه المشهور إلى الشعب المصري بأن أصبح لديكم الآن (البلح في جيب والبترول في جيب آخر)، ويعني بذلك البترول والتمر العراقي، من هذا وما تقدم سنحت الفرصة لخليط المتناقضات في الدّاخل من بعثيين ( وقومجية) وطاشناق تركماني واقطاع وافتاء مشرعن للركوب بالقطار الأمريكي، الذي يعتلي ظهره المقبور على صالح السعدي في الصبيحة الشباطية السوداء، للتوجه إلى عرين الاسد لتنفيذ الجريمة النكراء في الثامن من شباط عام 1963م، وبعد استشهاد الزعيم وصحبه الافذاذ أسّس الأوغاد أكبر قاعدة من الإجرام بتشكيلهم الحرس اللّا قومي الذي تقشعر من اسمه الابدان، حقيقة الأمر وبعد أنّ تقلّد الأوباش مقاليد التسلط، قال المنصفون لا سيّما الاعداء التقليديين للزعيم ومنهم (يسرى سعيد ثابت) بأن الزعيم هو الشجاع وهو الزاهد والمحب للفقراء، وانّه الجّم بالتّسامح وقالت بإسهاب بأن الشباطيين لم يقتلوا شخصاً، وانّما قتلوا شعباً بأسره، أنهم قتلوا الحياة والانسانية والتّواضع والنّزاهة.