الأدب كوجاهة اجتماعيَّة

ثقافة 2024/02/12
...

  البصرة: صفاء ذياب

يمرُّ الأدب والفن عموماً بفترات موضة مثلما تمرُّ الأزياء ومواد التجميل والإكسسوارات، فهناك من يربط بينها بشكل صريح كون الاثنين نتاج ثقافة مجتمع أو أمة بأكملها، فمثلما تبرز موضوعات في الأدب والفن بين عقد وآخر، مثل الرومانسية والوجودية وغيرهما، تبرز موضات الأزياء والإكسسوارات، في كل عقد جديد، ليس أولها «الكلاسك والجارلس» وليس آخرها ما يلبس الآن من بنطلونات قصيرة وأحذية ذات طابع خاص.

الاثنان يعيشان معاً كواجهة لثقافة العصر، غير أنَّ ما يعيش فيه الأدب في العصر الحالي مختلف إلى حدٍّ كبير، فما فعلته وسائل التواصل الاجتماعي جعل منه حالةً خاصّة. في ثمانينيات القرن الماضي، وقبل ذلك بعقود، برز كتّابٌ كنجوم في عالم الأدب، غير أنَّ أعمالهم هي التي كانت سبباً في هذه النجومية، غير أنَّ العقدين الماضيين كانت لهما آراءٌ أخرى، فليست جودة الكتابة هي التي تصنع النجوم، بل طريقة عرض ما تتمُّ كتابته، إلى درجة أنَّ هناك كتّاباً ليس لديهم إلَّا المال، أصدروا كتباً لم تقرأ، لكنَّ الدعم والترويج لما كتبوا هما اللذان جعلا كتبهم أشهر من كتب الجاحظ نفسه. من جانب آخر، يسعى الكثير من الكتّاب ليصبحوا نجوماً في وسائل التواصل الاجتماعي، ويعملون جاهدين ليكونوا (ترند) في الفيسبوك أو الانستغرام.. فهل تحوّل الأدب لوجاهة اجتماعية؟


غايات زائفة

يؤكّد الدكتور محمد كريم الساعدي أنَّ الكتابة في مختلف المجالات مسؤولية أخلاقية في تقديم المعرفة التي تسهم في بناء الجوانب الإيجابية في المجتمع. ويعدُّ الأدب الصورة الأكثر أهمية في المجتمعات كونه يدخل في تبيان حقيقة الذائقة الفنية والأدبية والارتقاء بها، لكنَّ الأدب في حدِّ ذاته عند البعض من الكتّاب أصبح وسيلة من وسائل الوصول إلى غايات أخرى بعيدة عن غاية الإبداع الأدبي من أجل أن يكسب الشهرة والنجاح الزائف بعد أن يكون التقييم خارج الأطر الحقيقية، أي يكون التقييم من خلال الجمهور المنتمي لوسائل التواصل الاجتماعي بعد أن أصبحت هذه الوسائل فضاءَ التفاعل الجديد والمجال، الذي يصنع المجد الأدبي لبعض من يدّعي الإبداع. ممَّا يجعل من هذا الفضاء المخادع في تقييماته وَهْمَ من يبحث عن المجد والظهور الأدبي بظهور غير سليم، كونه ارتكن إلى ثلاث نقاط هي: 

1 - العمل الأدبي في الفضاء الافتراضي: هو عمل في أغلب الأحيان لا يرتقي إلى المنجز الإبداعي كونه موجّه إلى غايات غير إبداعية، بل غايته كسب الظهور على حساب الإبداع الحقيقي.

2 - المتلقي في الفضاء الافتراضي: هو ليس متخصصاً في مجال الأدب والنقد، بل متلقٍّ عام يميل إلى إعطاء آراء ترفع من شأن صاحب العمل الأدبي حتَّى وإن كان غير صالح للذائقة الفنية والأدبية.

3 - الفضاء الافتراضي: فضاء عام وغير محدّد المعالم وأغلب من يرتادونه قد لا يمثّلون شخصياتهم الحقيقية، فهو مجال يميل إلى الخداع والزيف أكثر من المصداقية في الظهور.

من هذه المرتكزات وغيرها أصبح الظهور والترويج لمدّعي الثقافة والأدب أسهل وأبسط، ممَّا جعل قضيّة الاستسهال في طرح النتاج الفكري لمدّعي الأدب في مختلف مسمّياته مباحاً لهم والغاية من ورائه ليس الرصانة الأدبية، بل الظهور في هذا المجال وتحقيق الشهرة الزائفة.


متى يكتبون؟

ويرى الكاتب المغربي يوسف كرماح أنَّ الكاتب يتأثّر بتقلبات الزمن، من نواحٍ عدّة. أصبحنا نطالع كُتَّاباً مشهورين يظلّون مرابطين في صفحات التواصل الاجتماعي في انتظار زيادة اللايكات وتوافد التعاليق، لدرجة أصبحنا نطرح السؤال الوجودي، متى يكتب هؤلاء ويقرؤون؟! وربَّما لديهم طموح أكثر، أن يكسروا أرقام المتابعة والمشاهدة نكايةً بمشاهير الفن. وربَّما أصبحت طموحاتهم الإبداعية رهينة بفيالق من الحمقى يتسلّون بحق التعليق والنقد وحرية الرأي.

مضيفاً: لوسائل التواصل الاجتماعي سلطة قويّة على الحياة الاجتماعية، لأنَّها منصّة لترويج المنشورات والإنجازات ومواكبة المستجدات، وأيضاً لأنَّها وسيلة التواصل مع الأصدقاء والقرّاء. غير أنَّ الكاتب الذي يمكنه أن يحقّق الترند في منصّات التواصل هو كاتب الروايات والقصص ذات الطابع الإسلامي التي تتبين من عناوينها، وقد عاينت الأمر في معارض دولية إذ تتخلّق الطوابير من أجل التوقيع وأيضا لتلهب مواقع التواصل لاحقاً بحصولها على نسخة. هذا التوجّه يعطي للكاتب حظوة وحصانة وأتباعاً. لا الكاتب ولا جهوره يستوعبون هذا الانجراف الشبكي الذي تحرص شركات على إجبار الزوّار بإغراءات للبقاء على مواقعها وإشباع الحاجيات الاستهلاكية. الإشكال في الترندات أنَّها لا مرجعية تأسيسية لها، أي الخطاب التأسيسي. المتلقّي أصبح يتابع الكاتب وخطاباته، ويطّلع على أخباره وجديده ويتشبّع بالشفاهي؛ وهي معلومات غير كافية، إذ لم يعد له وقت للقراءة للكاتب، هذا الأخير أيضاً لم يعد يملك وقتاً للتفكير والتحليل والإنتاج. الكاتب ينساق تدريجياً في ثقافة التفاهة.


وسائل جديدة

وبحسب الشاعر حسام البطاط، ففي ظل ما نشهده من ثورة تكنولوجية وانتشار مهول لمواقع التواصل الاجتماعي بدأنا نرى تنازلاً واضحاً للأدب عن الوجاهة لصالح تلك الثورة التي منحت الحق في التعبير لكلِّ من يملك هاتفاً ذكيّاً أو حاسوباً متصلاً بالشبكة العنكبوتية. حرّية التعبير هذه أنتجت مستخدمين يتقنون الرقص أو بث النكات وآخرين مستعدّين لعمل أيِّ شيء مقابل إعجاب أو تعليق كما أنتجت أيضاً مستخدمات بدأن بإظهار ما يلفت الأعين فتسابق المتابعون نحو هؤلاء وهؤلاء. هذا لا ينفي ظهور صفحات ذات محتوى جيّد ومفيد ولا يخلو من متعة، لكنَّها لا تستطيع- على أهمّية ما تطرحه- منافسة الصفحات ذات المحتوى الهابط التي تقف المجتمعات وراء تغوّلها. أمام هذا الهجوم يحاول الأديب في ظلِّ غياب دور المؤسسات الثقافية التي من شأنها أن تعزّز حضوره في المشهد، يحاول أن يجد لنفسه موطئ قدم أو يوقد شمعة في آخر النفق.

فإذا اعتبرنا أنَّ هذه الوسائل أداة، فمن حقِّ الأديب أن يستعملها كغيره، شرط أن يحسن استخدامها، فلا ينزلق متنازلاً عن هدفه الحقيقي. وإذا كان الأدب رسالة فلا بدَّ للرسالة من بريد، وإذا كان الإشهار في السابق مقتصراً على طبعِ كتاب أو نشرٍ في صحيفة فهو اليوم لا يقف عند هذه الحدود، بل يتعدّاها إلى ما هو أبعد، ولكن لتكن تلك الأدوات والوسائل في خدمة المشروع الأدبي فإن كانت الشهرة والوجاهة نتاجاً حتميّاً لنجاح هذا المشروع فلا بأس، فأديبٌ أو مفكّرٌ شهير يُغني العقلَ والروح خيرٌ من طارئٍ منحته المواقع والمتابعون سلطة الخوض في شؤون لا يفقه منها شيئاً...


وسائل للتدجين

من جانبه يبين الروائي المصري عبد النبي فرج أن السلطة لا تكره قدر كراهيتها للكاتب النزيه الذي يعتزُّ بذاته ويرى في الكتابة فعل مقاومة ضدَّ الجلافة والانحطاط وضدَّ عسف السلطة وأكاذيبها المروّعة، الذي يكشف زيفها وإجرامها، هذا الكاتب مقلق لكلِّ سلطة، مقلق للعوام، لذلك تجد له في كلِّ زاوية عدوّاً سواء في النظام السلطوي أو في الأعلام أو في دوائر الثقافة، والعوام أيضاً، إنَّه ينير منطقة صغيرة تخصّه وتخصُّ ذوات مهمّشة، هذا المثقف يدفع ثمناً باهظاً، لذلك تتكالب عليه السلطات كلّها لنفيه. وبرغم أنَّ السلطة في مصر استثمرت في الإبداع والثقافة بقوّة، لاسيّما بعد ثورة يوليو، لكن في النهاية كانوا «كتّاباً» قدّموا إنجازاً أدبيّاً من خلال ابتكار تقنيّات رفيعة في السرد، ولكنّه في النهاية ظلَّ هناك مسافة لا يستطيع تجاوزها في علاقته بالسلطة لذلك أرادت السلطة صناعة بهلوانات وأبواق مدجّنة له، تنصاع وتتماها مع خطابها الفاشي الرديء، لذلك صُنعت كتلة ضخمة تمَّ فرضها بقوّة من خلال أبيها، وبدا ينفخ في رمادها، ممَّا جعل البعيد يتصوّر أنَّ هناك ناراً وهي محض وهم، ولكنَّها استطاعت أداء دور بجانب السلطة لا يستهان به في دعم النظام الإجرامي والانقلاب على الديمقراطية، ومن هذه الأسماء الكاتب أحمد مراد الذي وصلت به الوقاحة أن يصنع أفلاماً وثائقية تنتجها وزارة الداخلية عن دورها التنويري وهي التي تتفنن في سلخ جلود المصريين، ممَّا جعله يتضخّم بشكل مرعب، وهو ما دفعه في ندوة أن يقسم الجمهور طبقيّاً ويضع بينه وبين العاديين من الناس حاجزاً، وهذه فضيحة تليق بمريض بالبرانويا. هذا هو النموذج الذي اعتُمِدَ. وفى الشعر تميت صناعة عشرات من الأسماء الفارغة العيية، وهناك الجوائز التي تنامت بشكل مخيف وصنعت أسماء من الفراغ ممَّا خلق هوساً مرعباً بالصورة باعتباره نجماً لاسيّما في ظلِّ المبالغ الكبيرة التي تدفع للكاتب، وهذه الجوائز كلّها لا علاقة لها بالثقافة، بل مجرّد وسائل للتدجين لا أكثر.

بروباغندا الأدب

ويكشف الشاعر حسين العبد الله «أنَّ الأدب لَمْ يَكُنْ يَوماً بِالنِسبَةِ للمخلصينَ إليهِ مَادَّةَ المَكَانَة!» ويستدرك: أَعترفُ أنّي كَتبتُ هذه العِبارة (المَكَانة) بِشكلٍ عَفَويّ، وأعادتْ إليَّ هَوسَاً قَديْماً حَول أولئك الذينَ يبحثونَ عن مكانةٍ بأيِّ ثمنٍ، مكانة تُرضي ذواتهم وتشعرهم بالسّعادة الزائفة، التي لا بريق فيها. «لا أخفيك عزيزي القارئ أنّي سرعان ما أعدتُ قراءةَ عملٍ نادرٍ ومختلف لآلان دو بوتون حمل عنوان (قلق السعي إلى المكانة) ويا له من تعريفٍ للمكانة حينما يقول (قلقٌ خبيث يفسد مساحات شاسعة من حياتنا) في هذا الكتاب ما يمكن أن نسمّيه تشخيصاً دقيقاً لمرضٍ يتماهى في ذواتنا، وسعيدُ الحظِّ ذاك الذي يفلتُ من غواية السعي هذه، ولا أنكرُ أبداً النتائج المثمرة لهذا القلق، لكنّها مؤقّتة وخادعة، أبداً لا تمنحُ لصاحبها عُشبةُ الخلود الأدبي، إنّها مكانةٌ سَراب تَزولُ وتتضاءل.

يُقَدّمُ لنا الوعي بالتاريخ الأدبي مجموعةً من الشواهد التي تُعزّزُ فِكرة الأدب بوصفهِ النشاط الإنسانيّ، الذي لا يبحثُ عن المكانة الاجتماعية بوصفها ظاهرةَ شهرةٍ، وما لهذا وُجِدَ الأدب مطلقاً، وإنَّ الأدب ليس وسيلة للوصول إلى السلطة؛ أعني بالسلطة هُنا سُلطة المثقف التي تمنحه القدرة على الكلام وتشكيل جماعة خاصة حتَّى لو كان هذا المثقف هشَّاً. أودُّ أن أُحيل القارئ إلى واحدٍ من أهم الشخصياتِ في الموروث العَرَبِي هو أبو حيان التَّوحيدي، قرأتُ سيرتهُ أو تاريخه الأدبي في كتاب المقابسات، ويُذْكَرُ أنَّهُ كانَ مُفَكراً- وهذا ما لا يُخفى- ولكنّه في الوقت ذاتهِ كان غَريباً، كان أكثر أهل زمانه علماً، لكنّه أيضا كان أقلّهم شهرةً، بل كان مغموراً فقيراً مِعْوَزَّاً. تشير هذه السيرة الأدبية بوضوح إلى حقيقة جوهرية إن صحَّ التعبير في أنَّ الأديب والمثقف الحقيقي والبحث عن الشهرة لا يجتمعان، وأتذكرُ القاص (محمد خضير) وهو يعيدني إلى إرثٍ من البصريين الأفذاذ، قال: «ما كتبت يوماً من أجل الشهرة، وهي ليست هاجساً بالنسبة للمثقف ولو أنَّها أصبحت هاجسه لما استطاع أن يقدم نتاجاً أدبياً!».

إن الكثيرَ من الرائجينَ اليوم ما فتِّقوا لنا المعاني كما فعل خلف الأحمر والأصمعي، ليستحقوا شهرتهم العالية وهم يمثلون اليوم بروباغندا الأدب خير تمثيل ولا يمثلون الأدب.


نشوة الذات

وتكشف الكاتبة السعودية نسيبة صلاح أن الأدب أداة من أدوات التطوّر والارتقاء بالنفس البشرية، ولا يمكن للأديب أن يضع نفسه في موضع الالتفات فقط يجذب الأنظار ويكتسب الشهرة، هذا لا ينفي أنَّ للشهرة والانتشار نشوة وإرضاء للذات، وبالمقابل فإنَّ الأدب يهذّب النفس ويجعل صاحبه مترفّعاً وهذه الخصلة تجعل الأديب يعلم أنَّ الشهرة لا تحتاج أن يضع نفسه في قالب ليجذب الأنظار.

فمن يضاهي ليو تولستوي شهرةً؟ كان رجلاً زاهداً طليق اللحية وأشعث الشعر ونشأ وأبدع في عهد لم تكن هناك وسائل تواصل اجتماعي، ولكن ذاع صيته لأنَّ ما يقدّمه هو ما منحه الشهرة، لأنَّ الأديب لا يبحث عن الشهرة، ولكن هي من تعلم طريقها إليه، فلا يمكننا أن نصف الكتّاب الباحثين عن الشهرة ومستجديي المتابعين بالأُدباء، فليس كلّ كاتب هو أديب.