ياسين طه حافظ
هذا مسعى نبيل. وهو، بالنسبة لمن يعارضه ويعارض أفكار اهليه، مسعى مشاكس أو عدواني. وقد يكون بالنسبة لغير هؤلاء، في الجهة الآخرى، هو مسعى مرحلي مساعد. عموماً، نحن في حياتنا وعبر الأجيال التي عبرت، ما شهدنا اتفاق الجميع على مبدأ أو غاية، ولا متى أبعدوا العدوانية من صيغة الخلاف. الإنسان فردا ليس هو أصلا صاحب الموقف. الإنسان مجموعة أفكار ينظمها يضمها جميعا في خط وراء مركز فكري أو نقطة دلالة. المركز قد يكون مبدأ حزبيا، أو زعيما سياسيا أو صاحب فلسفة ورأي. فلا يعود هذا الفكر أو هذا المفكر أو صاحب النظرية شخصا ابن زمن معين وسنة معينة، ولا ابن مدينة معينة وبلد. لا يعود هذا مهما. يصبح خارج زمنه، مثلا مؤثراً أو قائداً أو معبوداً ! قد يكون اختفى قبل قرون أو حتى عقود، وجاء زمن آخر وجاءت أفكار أخرى ومصالح أخرى، فنستعيده أو نعود للاستعانة به، سواء كان هذا رمزاً دينياً أو منظراً أو عسكريا يقود الناس أو يرغمهم. قد يكون أيضا ماركس أو ارسطو أو سواهما.
المصالح الجديدة تصنع ثقافتها. تصنع ثقافة تجعل من تلك الأسماء، لا أسماء فلاسفة قدماء ولا مفكرين من عهود ماضية، ولكن قوى حية تمارس واتباعها عملها النضالي ويضحي باسمها ناس شهداء عند طرف ومجرمين عند طرف.
وهكذا نشاطات أو ممارسات اجتماعية عامة أو سياسية مباشرة، تعتمد، في رأيي، على سندين.
الأول هو كراهة المختلف أو كراهة قيادته أو رمزه أو قطبه، والابتعاد عنه إلى سواه يخالفه.
والثاني (بسبب افتقاد الانموذج القيادي، يتم اللجوء إلى توظيف ما يسمى في الأدب بالمحاكاة، محاكاة امثلة مختارة من التاريخ القديم أو الحديث...) بحثا عن قطب أو قائد أو مثال بديل.
بعض هذه النماذج المختارة، المعبودة، أو المتخذة قادة، مجرمون ولهم بؤسهم ورداءاتهم الاجتماعية. لكن يُغفَل عن هذا الجانب ويصير التأكيد على الجانب “المضيء”، والمضيء هنا بمعنى النافع، والذي يخدم ويسند مبتغياتهم.
السؤال هل هم محقون في توظيف أو في الافادة من شخصيات مندثرة وغير واضحة تماما أو انتهى دورهم منذ عقود، لتقودهم في حاضر مثل حاضرنا معقد وشائك ومتقدم كثيرا على ما مضى أو على ما كان؟
والجواب، نعم. لهم حق في ذلك متوهمين أن أفكاره وشخصيته وشجاعته، مع الاسطورية المضافة، نماذج وأمثلة نافعة أو ملائمة. لكن هذا، ومن جملة ما يعنيه، أنهم ما يزالون أقرب إلى الماضي وأنهم يستطيعون سد نواقص حاضرهم مما في الماضي. وألّا ما قيمة نبوخذ نصّر أو هتلر أو ماركس أو ارسطو أو جمال الدين الافغاني في قضايانا اليومية والمعاصرة المستجدة والشائكة؟ ليس أكثر من بعض حي من ثقافتنا التاريخية أو ثقافتنا الفكرية أو الاجتماعية أو دلالات مفيدة من أحداث التاريخ. الإشكال الصعب الذي يواجه المثقف اليوم، هو غير ذلك الذي يواجه الإنسان العادي.
ذلك ينشغل بما يثأر له أفكارا أو عقائد والعقائد وراءها دائما أفكارٌ سياسية أو مصالح. مشكلة المثقف المعاصر إنه كما قال اودن في رثاء فرويد:
هو لم يعد الآن شخصا
ولكن جوا من الأفكار.
صعب تفحص رأس أي مثقف اليوم، لاختلاط أنواع ومستويات أنواع من الأفكار فيه وأزمنتها. وأضيف المزيد، فاقول ليس ما في رؤسنا أفكارا مختلفات ومنوعات حسب، ولكن أيضا نماذج بشرية وأحداث ومشاهد. وليس من الطبيعة والحياة حسب ولكن مما يضيفه لنا المؤلفون من شخوص وأحوال ومصائر وتوجسات وشكوك وطباع وأحداث قصص..
كيف لهذا المثقف أن يستعين بفرد من التاريخ أو برمز قديم لا معلومات كافية عنه ولا وضوح؟ أو باسم قيل ما قيل عنه في التاريخ ونحن على مبعدة قرون وحتى عقود منه؟
بالنسبة للزهاد والمتعبدين هم عادة يحنون لأزمنة الطهر والصلاح.
حسنا، لكن ماذا نقول عن الوثنيين وعن منظري العصور القريبة وقد تغير الاقتصاد وتغيرت العلاقات الدولية واتسعت مديات الحياة في التجارة والاكتشافات وفي أساليب التفكير والتحولات الكثيرة والمتسارعة في العالم؟ حتى ارسطو وحتى افلاطون يشيران إلى احترام الواقع وإلى أن يكون المسعى إلى الوصول إلىالحق.
أي مفكر عاقل، قديما كان أو ابن اليوم، يفكر من خلال الواقع وما يطور أو يضمن سلامة المستقبل.
العقل حتى بتضمنّه أفكارا قديمة ورموزا، لكي يكون حياً لابد من أن يكون عقلا معاصرا باحتياجات وبايحاءات وبما تكشف له أفكار عصره. هذا في السياسة وفي الاقتصاد والفنون وهذا في الفكر الفلسفي والفكر السياسي.
عبادة الشخصية الماضية، لاسيما السياسية، عبادة “كافرة” بالحقائق. هي مثلا تزكي هتلر من جريمة دمار مدن وبشر وزمن، ومن نزوع جنوني للشر. قد يكون سبب هذا كراهيتنا لما هو بديل غير مقنع لنا أو معاد.
ولكنه أيضا، دعنا نعترف، محاكاة لنزعة الجريمة والتسلط، نريد حضورها ضد من نكره لدى الفئة الأخرى.
لكن في هذه الثأرية غير المباشرة اخفاق فاجع للعقل والثقافة وللرغبة في التطور. نحترم الماضي لانجازاته لزمنه أكثر مما لانجازاته لنا.
نحترمه ونشيد برموزه وشخصيات فيه وأفكار، لكن مطلب الحداثة، الذي هو مطلب الحاضر والمستقبل، هو أن نتحرك بأفكارنا وافاقنا الجديدة وكفّ الماضي عن أن يضغط كثيرا على عقولنا.
ليكن التعارض بعض مباحثنا، لا محطة نتوقف فيها وكأن هي ما يجب الانشغال به والوقوف عنده.
لا قدسية نهائية للدنيوي. ولكل الفلسفات مصالحها! ولهذا يعزو جيمينيز في “الجمالية” خشية افلاطون ومن بعد خشية ارسطو من الفنون لأنها تبتعد عن “الحقائق”، فيبتعد افلاطون عن الفنون أو يبعدها ويهتم ارسطو من كل ذلك بهوميروس.