خالد الأمين.. قصائد على حافة الخسران

ثقافة 2024/02/12
...

 بغداد: الصباح

إذا كان الشعر هو الشكل المعتاد لتناول تجربة ما، فإن خالد الأمين يتحدانا للتشكك في أحزاننا ويدفعنا لتخيل احتمالات أخرى. إنه يضعنا أمام حقيقة تدعونا إلى النظر مرة أخرى نحو اللغز العميق للإنسان والإدراك والتغيير، حتى لو كلف الأمر ألا تكون لنا قبور وتبقى سيرتنا مجرد حبر على ورق.. لقد دار الأمين حول أسئلة ميتافيزيقية في «الهوية والتواجد والنهاية المجهولة» مما يزعزع استقرار القارئ الذي غالباً ما يتساءل «لماذا؟» هو لا يبحث عن تفسيرات أو تماسك منطقي، بل لفهم اللغز الذي نعيش فيه ونتحرك داخله. يحيل علي البزاز  حياة الشاعر خالد الأمين إلى «رحلات لا تعد ولا تحصى عبر ممرات ضيقة» تقود القارئ على الفور إلى عالم الحقيقة، الذي يذكرنا بـ «أعمق آلامنا».

كل هذه الأحداث تجري في «لبعض السّفر أحتاجك»، والذي يقول عنه: “انشغلتُ بجمعِ أرشيف الشاعر خالد الأمين أزيد من عشرين عاماً، فتعرّفت أثناء ذلك، إلى أشخاص عدّة وإلى وعود عديدة، أدّعوا امتلاكهم قصائد ومقالات له، لكن للأسف لم يفوا بشيء يُذكر! وكأنّ  يُراد للسرّ أن يبقى في سرّ ثانٍ وفي طبقات منه منطوياً على تخف وخوف من العلن. وربّما سيأتي أحد ما، وينشر ما لديه من تراث الشاعر، فيتوّج سعادتنا بسعادات  أخرى. فماذا يريد الشاعر الذي لا قبر له؟”. 

ففي عام  1972، أُعدم الشاعر خالد الأمين في معتقل «قصر النهاية»، هذا الشاب الذي انتمى مبكراً إلى القيادة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، وقاد -آنذاك- حركة «الكفاح المسلح» ضد حكم البعث في أهوار الناصرية، ولكن عندما فشلت الحركة، تم اعتقاله، وتحت وطأة التعذيب رحل في ظروف غامضة. 

يصفُ خالد الأمين نفسه، عندما يكتب عن إيلوار، «شاعرُ شرف وشهامة، وكراهيّة وبُغض، نظيفٌ ومُنزَّهٌ، ومقلَّمُ الأظافر».. ويرى البزاز أنه «تعلّق بالشهامة وبكراهيّة الظُلم والسُّلطة، وعاش مُنزّهاً عن عيوبها، فقد كان من  عائلة ميسورة، ولكنّه تضامن مع الفقراء والمحرومين.. كيف سيجعل الشاعر حياته الماضية «تربية ونشأة وانتماء» تتطابق مع حياته الآتية المجهولة بديهيّاً؟ فيتبنّى مسيرته عن وعي كامل وكأنّه يعرف مستقبله سلفاً. كان خالد الأمين واعياً بمستقبله، محترماً لخياراته ومتبنّياً موته القادم، الموت العارف نفسه، موتٌ عند كلّ مُداهمة شرطة وعند كلّ ضبط وتحقيق.. وهذه الصّفة كانت تُلازم الانتماء السياسيّ وخصوصاً الشيوعيّ، في تقبّل للموت قُرباناً للفكر والنّضال لم يَشِ خالد برفاق تنظيمه، على الرّغم من التعذيب الهمجيّ.. هذا استنتاج تقرُّ به مجريات الأحداث بعد موته».   

كتاب «لبعض السّفر أحتاجك» الصادر عن دار النهضة العربيّة في بيروت ويقع في 236 صفحة، يتناول كل ما أتيح من قصائد خالد الأمين، ومن ضمن مجموعتين شعريتين. وقد ذهب البزاز إلى اعتبار المقدمات الإبداعية التي كتبها الأمين لأعمال الشعراء الفرنسيين «سان جون بيرس، بول إيلوار، هنري ميشو، جول سوبرفييل، بيير ريفيردي، إيف بونفوا، وغيرهم» هي بمثابة مجموعة شعرية مستقلة بعنوان «سهل وخطر كبصمة إبهام». أما المجموعة الشعريّة الثانية للأمين فهي بعنوان «من أجل ضوء كثير الدماء»، وتحتوي على قصائد بخط يده أتاحها صديقه الأديب عبدالرزاق رشيد الناصري، وقصيدتين أخريين منشورتين.

ما الذي يمكن أن نستنتجه من هذا الكتاب المثير؟ هل أن خالد الأمين هو أحد بيروقراطي لوركا المثيرين للحزن.. الحكمة؟ أم أن هذا هو ما يعنيه الخلود؟ كل ما هو مؤكد هو أننا دخلنا منطقة الحزن: “الحكمة- بنظري- تبدأ أحيانا عندما تصبح الأحداث حزينة.»

يقول خالد الأمين في قصيدته المحفوظة في هذا الإصدار “القلب البديع” والمنشورة في مجلة “العاملون في النفط عام 1968”: “لبعض السفر أحتاجك/ لكنما ما فعل طيش الذاكرة/ وأيّ زنخ يُثيره الليل بهذا النهار البتول/ بل ويا للصراخ الكالح المقوّس/ لربما الملائكة.. لولب الآونة/ والسير دون رجعة.. / هو أصعب الملاحظات/ لأني أعلم.. كيف تجرَّدت من الأعضاء التي شغلتها/ لكنما أيّ جزع يصنعه الطقس الأبيض/ بسلّة من دخان/ وودت لو أثقب غرفتي/ لأسيل نحو الشجر، حزيناً، وبغبرة خفيفة لأني أعلم اليوم/ ليس ثمة بلل في هذه الساقية/ بل ولا حتى نافذة تشرق منها زهرة الليل/ فما نفع الديوك المعطرة/ وما نفع البحر بالزوارق التي تكفّر عن نفسها/ نحو الوراء.. يتقدم الآتي، هذا نصيب الكل/ وولّى الفجر الذي نصعد إليه/ وها هو الانتظار يبدأ نقطة.. نقطة وبَجَلَبَةٍ واحدة. / إلى أيّ الغرف ذات الويل.. يقودني/ بعنق غيرك لاحقت أرياف الإعدام/ عزلة مغطاة بأفخم الانكسارات/ تجري دون توقف ضد حافة الفضاء/ هي مياه الحديقة/ وهي هذا المساء ذو العضلات والأكفان الزرق/ بينما زجاج الفاقة وحده/ الذي يصنع محطةً لعشب مثير». 

بالنسبة لي، القصيدة هنا تسلط الضوء على الغربة، حيث الوراء.. الوصول نحو حافة الفضاء.. تلك العزلة المغطاة بالخسارات والانكسارات، وهي حافة الشعر الذي تقاطع أفكارنا ونمط حياتنا التقليدي وتخربه، مما تخلق مساحة للتحول، فالشعر يتخذ كل الطرق التي لن نجدها حتما كي نعبرها بيقين، ومن ثم يجعل من ذلك محور البداية.. إنه يحاول ابتكار حياة جديدة غير مألوفة حتى يدعونا إلى التساؤل عما يمكننا رؤيته؟

نظراً لأن كتاب «لبعض السّفر أحتاجك» عبارة عن دعوات للتساؤل عن الغموض الذي يقع بعيداً عن متناول أيدينا، فإن لغته، كلمة بكلمة حيوية.. فعبره يلفت مؤلفه علي البزاز انتباهنا إلى ما ليس موجوداً، أو ربما إلى ما نشعر به ولكننا لا نتمكن من نقله وكتابته. وهو يكشف عن تلك المناطق التي لا تَودّ الذهاب إليها أو تتعذّر مُلامستها، وممارسة الفداء حيث تستقبله التضحية المُركّبة الآن، والشخص النابض بالحياة تحت الشكل المتعب الذي يقف أمامنا مع انحرافاتها ودواماتها وثورانها، يفعل الأمين هذا الشيء، وهو يقول: «هناك الكثير لرؤيته.»

يحوي كتاب “لبعض السفر أحتاجك” على سيرة وتراث الشاعر العراقي الراحل خالد الأمين ويتوقف عند أهم محطاته النضالية وأسرار اختفائه القسري واغتياله وبعض مسودات لكتاباته، وصور فوتوغرافية له في مناسبات متنوعة، إلى جانب شهادات ودراسات عنه، بأقلام كل من “أحمد الباقري، عزيزعبدالصاحب، عبدالرحمن طهمازي، عبدالحسين الهنداوي، سناء عبدالقادر مصطفى، عبدالرزاق رشيد الناصري، فاضل عباس هادي، عقيل

حبش”.