د.طاهر علوان
ما الذي يتغيّر كل يوم في بغداد؟
هذا السؤال يطرحه البغداديون والعراقيون عموما فضلا عن زوار بغداد، فهذه المدينة المترامية الأطراف تكاد تنزع ثوبها العتيق لترتدي ثيابا عصرية تليق بها من بين أهم العواصم والحواضر في العالم.
لكن واقع الحال يقول إ اجزاءً مهمة من كيان بغداد قد اكتهلت وانتهى زمنها وتآكلت ولم تعد هنالك من جدوى لبقائها، احياء بأكملها وأزقة وشوارع متهالكة، لم تمتد لها يد الترميم والعناية منذ عقود ولهذا لم تعد هنالك من جدوى لوجودها اطلالا وخرائب وأزقة مهملة ومتداعية.
بغداد التي تقدر مساحتها بحوالي 4500 كيلومتر مربع وتعداد نفوسها يقدر بأكثر من 9 ملايين نسمة، هي المكان الأكثر اكتظاظا في العراق بكثافة سكانية تصل إلى اكثر من 1500 نسمة في الكيلومتر المربع الواحد، هذه المدينة التي تتضخم يوما بعد يوم زاد من تضخمها النزوج المتواصل من جميع محافظات العراق، لمن استطاع سبيلا للاستيطان فيها، والرقم مفتوح على زيادات أكبر وأكبر في سكان
بغداد.
هذا التضخم غير المسبوق رافقه تردي في النظام الحضري والعمراني، اذ لم يشهد النسق الحضري والعمراني أي تحديث يذكر وبقي على حاله منذ ثمانينات القرن الماضي وحتى اليوم ولهذا صارت بغداد مرتعا لتشوهات لا تعد ولا تحصى، افقد المدينة سمتها المدنية والحداثية، وجعلها هجينا من السلوكيات الفردية والتشوهات المعمارية وفوضى النقل والبناء وما إلى ذلك.
رافق كل ذلك تردي الطرق التي يسلكها ملايين البشر يوميا وهي شوارع كانت مهيّأة إلى أقل من ربع عدد السيارات والسابلة، الذين يستخدمون شوارعها في كل يوم.
الاستيراد الضخم والعشوائي والمتواصل أدى إلى تحول بغداد إلى مدينة سيارات من كل نوع وحجم بامتياز وخاصة بعد انحسار أي توجه حضري لاستخدام وسائل النقل الحديثة من قطارات وخطوط ميترو الانفاق وخطوط الترامواي والباصات التي تعمل بالطاقة الكهربائية، هذا الواقع المزري مع وجود ملايين السيارات قد تصل إلى حوالي 5 ملايين سيارة عدا آلاف الدراجات النارية و”التك تك” جعل المدينة من المدن المقبلة على تلوث خطير بسبب الانبعاثات الضارة من ثاني أوكسيد الكاربون والرصاص والبروبان وباقي المخلفات السمّية من الغازات الخطيرة على السكان، فضلا عن كميات الغبار ومصادر التلوث الاخرى.
وأما على صعيد الشكل الحضري والعمراني، فنجد اهمالا فاضحا لتخطيط الطرق وانعدام شبه كامل لاحترام أنظمة السير واستخدامات الأرصفة وأماكن وقوف السيارات وكراجات النقل الخاص، فالذي يتأمل يجد ان اهم شارع ( داون تاون) لبغداد يمتد من الباب المعظم وحتى ساحة النصر مرورا بمناطق الميدان والشورجة والوثبة والسنك وشارع الرشيد وساحة التحرير والطيران، وصولا إلى شارع السعدون وساحة النصر، من يتأمل هذا الامتداد الطويل يجده مشغولا بالكامل بالباعة المتجولين بل ان اهم شوارع بغداد الحيوية هي متاحة عشوائيا وفوضويا للباعة المتجولين وهناك تجد ان كل بائع يستطيع ان يفترش الرصيف أو جزءا من الشارع ويبيع ما يشاء بلا حسيب ولا رقيب بل برضا جهات رقابية مسؤولة كثيرة.
لقد تم اهمال هذه الشريحة من صغار الكسبة وأصحاب البسطيات ولم توجد لهم ساحات مخصصة لهم ولا اكشاك بشكل لائق ولأنهم في امس الحاجة إلى مصدر الرزق فقد اضطروا لاتخاذا الأرصفة والشوارع الرئيسة لبغداد دكاكين عشوائية لبضاعتهم يرافق ذلك اطلاق آلاف من مكبرات الصوت، التي يستخدمها أولئك الباعة بطريقة فوضوية ومزعجة للمارة.
في وسط كل هذا تأتي أخبار سارة بوجود نية للحكومة بمعالجة الظاهرة الكارثية الممثلة في الازدحامات المرورية الخانقة بانشاء تسعة مجسّرات طال انتظارها لنصف قرن تقريبا.
لا شك ان تلك المجسرات سوف تكون ذات فائدة وهي خطوة بالاتجاه الصحيح، لكنها لن تشكل الا قطرة في بحر فوضى الشوارع، وتردي نظام النقل العام والخاص والتلوث القاتل واهدار الزمن في الازدحامات.
إن بغداد في وضعها الحالي بحاجة إلى اضعاف اضعاف هذا العدد من المجسرات، انها تعاني من اكثر من 150 من التقاطعات التي تنغص حياة البغداديين في كل يوم ولهذا فإن بغداد في حاجة إلى عشرات المجسّرات والجسور والأنفاق والطرق الحولية والدائرية والتي يجب ان يتم انشاؤها دفعة واحدة لإنقاذ المدينة من الوضع المزري، الذي تعيش فيه وتسليمها لشركات عالمية قوية ورصينة وذات خبرة طويلة وليس لشركات هي في بداياتها.
من جهة أخرى فإن بغداد يجب أن تقسم إلى محافظتين أو ثلاث، وأن تبنى العاصمة الإدارية التي تضم المباني الحكومية خارج مركز المدينة وان تنقل منطقة الشورجة وأماكن تصليح السيارات وصيانتها ولوازمها، فضلا عن محال العدد اليدوية والأجهزة والمعدات ومعارض السيارات إلى أحياء صناعية واسعة، لا أن تتواجد في مركز المدينة، فهذا امر غير مألوف في التخطيط المدني والعمراني.
بغداد بحاجة إلى مؤتمر عالمي شامل يدعى اليه مخططون حضريون من انحاء العالم ويعلن خطة ستراتيجية من مراكز خبرة عالمية، يعيد تخطيط بغداد حضريا ويباشر بها على كل القطاعات بإعادة بنائها من جديد على أساس عمرانية حديثة صديقة للبيئة مصحوبة، بطرق سريعة وجسور ومجسرات وأنفاق وقطارات انفاق وما إلى ذلك.
ختاما، أتمنى ان لا تنفق المليارات في كل عام على مشاريع هامشية وان يجري تجميعها في صندق لإعادة بناء بغداد من جديد، ويعاد تخطيطها إلى عدة مدن قائمة في حد ذاتها ومكتفية بمواصلاتها المتطورة وأنظمة العيش اللائقة فيها.
من حقنا كبغداديين وعراقيين أن نحلم فالخيال والحلم يمهد للحقيقة والواقع وهما امتداد لهما.