صالح رحيم
بانفراط مسالكه العديدة، بلا نهائية مساربه، بانتعاشه بعيداً عن فخاخ اللغة وشراكها. يتجلى هذا الكائن في الصحراء بوصفه نقطةً لا مستقرَّ لها على مدِّ النظر، تتفاقم بالنظر المحض، وتتضاءل بالانتهاك الحسّي للشاعر إذا ما انتوى حيازتها بيديه.
انتبهتُ مؤخراً إلى خطورةِ هذه المسألة، قبل أيامٍ، في سفرةٍ، رفقة من أحب، إلى الصحراء، وكما العادة، حملتُ معي دفتراً، وقلماً، وانطلقتُ، أمشي، ابتعدت عن الجمعِ، مسافة ليست بالقصيرة، إلى مكانٍ لم أعد أرى منه الخيمة.
تمددت قليلاً على الرمل، توسدتُ صخرةً، ورحت مستغرقاً في تفاصيل المكان العجيبة، أرض رمليةٌ، وسماء، وأفق، بالإضافة إلى بعض النباتات البرية الشامخة. تتحدد محنةُ الشاعر بمواجهته الشعر وجهاً لوجه، في هذه اللحظة تحديداً، تنحسر الملَكَةُ الإبداعية، وتتوارى خلفَ الانبهار المهول، لحظةَ يصيرُ الشاعرُ في الشعرِ غَرْفَةَ ماءٍ من بحرٍ إلى البحرِ نفسه.
كنتُ مُخدَّراً بالجمال، اختنقت من فرط الدهشة، تجرأت الكتابةَ، لكني، انتبهت إلى جرأتي. فانسحبت، وكان انسحابي في محلِّه.
أدركت في حضرةِ ما رأيت، انتفاءَ الحاجة لما أكتب، ولكي أنجو، كان ينبغي أن أهرب، ولا أبالغ، إنْ قلتُ، لولا هربي، ما بقيتُ حيّاً حتى هذه اللحظة، وهذه الحالةُ، متأصلةٌ في روحي، وليست وليدة هذا المشهد، غير أنها في ذلك اليوم، تجاوزت المعيار الطبيعي للدهشة الإنسانية، كانت اللحظةُ، بحاجةٍ إلى ما هو أكبر من الإنسان، أو إلى ما هو أكبر من قلبٍ إنساني.
ذهبتُ راجياً، لكني عدتُ راغباً عن الوحدة والرجاء، قبضةٌ من الرملِ، تساوت عندي بالعالمِ كله. كان الفضاءُ رحباً، تشعر فيه، أن العالمَ يغفو على بيضة، وتسمع أنفاس الأرض، وهي تغفو على عَظْمَةِ الزمن. وتارة تلمسُ بأصابعك، العالَمَ يطفو على بيضةٍ لم تفقس بعد، تدفعه، فيتحرَّك، وفقَ ما تشاء.
ترى البِئرَ يتوسع في عينك الداخلية، وترى، تَسرُّبَ الأسرار، أسرار الكون، وهي تخترق كيانَك، دونما استئذان، أو رأفة، في الوقت الذي تتأكد فيه، من قِلِّةِ الحيلةِ، وفقدانِ جدوى ما رأيت أمام من لم يرَ ما رأيت. بالإضافة إلى خطورة الرؤية، والهلَعِ الناجمِ عنها، والرجفةِ في عظامٍ، هي من أضعف ما يكون.
تظلُّ تكتفي بالنظر إليه من القفى، لئلا تخسرَ الشيح، تلك النبتة التي تفوحُ في الصحراء مثل وهمٍ متجسدٍ بهيئة من تحب. رائحةٌ سماويةٌ تفوح في تشعبات الأرض، ومنعرجات الطريق، من نبتةٍ مباركةٍ بالعزلة الأبدية للمكان، طهرٌ تتنفسه العظامُ، تعبئه في دمك أيادٍ مباركةٍ هي أيادِ الصحراء، من الرائحةِ هذه، رائحةِ الشيح، إياك أن تشبع، تَنَفَّس ببطء، ومن بعيد. تكتفي بالخسارة، لأنك تعرف أنها التجربة الوحيدة التي تستحق المخاطرة، لأنك تعرف أن أحدَهم قالِ كل شيءٍ ونسيَ خبرَك في الدولاب، تهرُب، لئلا ينفتح الدولاب. لئلا يدكُّ الجمالُ حصنَ قلاعك المتينة، ويهزُّ جذورَ أشجارِ وهمِكَ التي لأجلها أفنيت عمرَك اليافع، عُدْ لترضى عنك الحجارةُ والحصى والطريق، ولتكتفي بما رأيت.
وفي ليل البرية، سقفٌ مزينٌ بأروعِ لوحةٍ في تاريخ المجرة، أو مما تراه من تاريخ المجرة. نَمَشٌ حيّ، يسطعُ على وجه امرأةٍ عاريةٍ إلا من الرمل وبضعة نباتات تلتهب بالعطش والرغبة العارمة. وجهٌ سافرٌ يغطُّ في سُكْنَةٍ أبديةٍ ومعدية، ولا أكرم من الصحراء في هذه العدوى. فإذا ما أصبت بها، فلتهرب، فقد يتسرب إلى عينيك ليلٌ كثير، وتحدث الكارثة.
لا تواجه الشعرَ مرةً أخرى، ولا تحاول مسّ وجهه، دعه يطارد سرابَه، ولتكتفي بالنظر إليه من القفى.
لن تستطيع قولَ كل شيء، إنك تشيرُ إلى جهةٍ ما عاد لها أثر، ما تقوله، كناية عن اليأس، محض استعارات. شراكٌ تتوهم ما ليس بفريسة فريسة. رحلةٌ حصادها الرمل، هذا ما في الأمر كله.
ألوانٌ بكلِّ نزاهتها، تتشكلُ وفقَ ما ترغب، الأصفرُ في هيئةِ عشبٍ مهجور، الأحمر تنضحه شمسٌ تتجدد كل يومٍ بالفرَح اللانهائي، الأخضر احتجاجٌ عظيمٌ في وجه العطش، الأبيض والأسود بكل براءتهما ينفردان بك، بالأسود والأبيض، لا تصدق، فلتبقِ شيئاً من الحكمة والسؤال، لا تغرق، لا تقترب أكثر، كن أفقاً فحسب.
لن ينفد الكلامُ، ولن تزول هذه النشوة، تنظرُ إلى النار، فتمدُّ يدَك، عبرَ العصورِ، لتصافحَ يداً تعرفت إلى النار قبل قليل، تنظر مرةً أخرى، فتنتبه إلى مدى ما تنطوي عليه نارُك من احتجاجٍ على سفالةِ العصرِ وعلى جرأته السافرة. تكرر النظر، كمن يزيل صدأً متراكماً على روحك، لكن، فجأة، ترى النارَ التي لأجلها غامرت، ترى الحياةَ كلها منعكسة عبر اللهب، ولا سواك يرى، تضطرب، وتهرب، لئلا تحترق. في هذه اللحظة، أفضل وسيلة للهرب، هي أن تنظر إلى أيِّ كائن يجلس جوارك، وإياك أن يخدعك اللهب بسحره وبهائه. أقول اكتفيتُ برؤيته من القفى، ولم أرتوي، لأن في مواجهته قد أخسر الماء، وفي الارتواء خدعةٌ جليلةٌ تلصق في الآلة المجبولة من التراب، تذيب المرءَ وتحيله إلى شبحٍ صحراوي. لا يتعلق الوصفُ بحالةٍ شعريةٍ فحسب، بل إنه يشير إلى خطورة، الجمال في الصحراءِ خطرٌ ولا أنصح من يرغب لقائه النظر إليه لأكثر مما تحتمل قدرته البشرية، لأنه قد يحجِّرُ الأعينَ، أو يشلَّ الأطراف، أو قد يرغب في معانقته، وهنا مكمن الخطر، معانقة الجمالِ، الجمال في ذاته إذا شئنا تعبيراً أكثر دقةً، ينتهي بالمرءِ إلى الجنون، أو إلى الإفراط بالمحبة والموت.