غرابة الموقف

ثقافة 2024/02/13
...

 حاتم حسين

فتحوا عليّ الباب عنوة ورغوة الصابون على جسمي وعينيّ.. قالوا: إطلع بسرعة أنت مطلوب، لم يفسحوا لي المجال أن اتنشّف، حالة غريبة وقعتُ فيها وأنا في الحمّام، قلت: أمهلوني لحظة أرجوكم أن اتنشّف وأرتدي ملابسي التي مضى عليها شهر لم استبدلها.. مطلوب لمن.؟!
لم أكن مطلوبا لأحد، لكنّهم لم يمهلوني حتّى أخرجوني بقوة من داخل الحمّام.. هنا الحكاية أخذت منحى آخر لا يمكن التهاون أو السكوت عنه مهما كانت العدة والعدد.
المسألة أخذت طابعا رجوليا، أما أن تخضع وتستسلم، وأما أن تقاوم حتى الموت، لم أُغمض عيني في تلك الليلة المشؤومة التي هجموا فيها عليّ، شلة من رجال (تنظيم القاعدة)، الوضع يوحي  بأني مقتولٌ لا مُحالة، وأن الطريق أمامي مغلقٌ تماما، أنا لم أفعل شيئا، كل الذي قلته لزعيمهم هل أنتَ متأكد أني مطلوب؟ أمسكوا بيدي الموغوف بالصابون، والأمير يَشهر مسدّسه ويصوّبها نحو صدري وهو يصرخ: (يلله لك أتحرك أتحرك).
عصابة مارقة مئة بالمئة لا يخطئها الحدس، لا أدري كيف هجمتُ عليه وسيطرت على المسدّس. بيدي اليسرى وضغطت بالأخرى على لوزيته وحنجرتيه بقبضة من حديد أخذ يكح ويسعل، منعته من أن يتنفس.. أن يكح ثانية.
تلك اللحظة التي لم استطع تحمّلها. صرخت بوجهه وهو يختنق حتى تراخت أصابعه عن الِمسدس الذي لم أكن أنوي قتله بها، بل أردته أن يموّت تحت أصابعي الفولاذية، إنهار ووقع ميتا في تلك اللحظة الّتي ضغطت على لوزتيه، ورميت الثلاثة وهم يتراكضون منهزمين.
اطلقت عليهم النار بلحظة خاطفة، وأرديتهم قتلى. هؤلاء الذين أخرجوني عارياً من الحمّام بلا ملابس، ركضت خارج البيت، كانت لسعة البرد قد هجمت عليّ وأنا أركض، رميتُ بالمسدس حين فتح جار لنا باب بيته، وهو يؤشر لي بصمت أن أدخل كي يستر عليّ، فعلا دخلت البيت وأنا بسروالي الأبيض حتّى انّ الرجل قدم لي بِسرعة ملابس ارتديتها واستأذنته كي أبتعد عن موقع الجريمة التي تناهى أخباره إلى رجال (القاعدة).
أصبحت هدفا للتنظيم منذ ذلك اليوم الذي حلمت أن أسبح بماء حار ودافئ في البقعة المحاصرة بيد (التنظيم). في البدء مدوا رؤوسهم ليستطلعوا جسدي، قلت إنهم يريدون التأكد فقط، هل الحمّام فارغٌ أم لا؟ لكن بعد أن تكرر الحدث، شعرت بميولهم اللا أخلاقية، ميول أشبه  بقوم لوط. أنا لا أعرفهم، ربما عانوا في طفولة مبكرة سببت لهم هذه الانحرافات، ترى هل كانوا يريدون التهجّم عليّ، فقد قرأت ودرست كل كتب نوال السعدواي* واستوعبتها، حاولتُ أن أجلبهم إلى طاولة النقاش، أرجوكم إنني لست مطلوبا لِأحد، لكن توسلاتي باءت بالفشل.
كان أميرهم ينضح غضبا، لم يمهلني الصبر أن أشرح له بأني بريء؟ يريدُ اخضاعي لأوامره بالقوة، بقيت مأخوذا بغرابة الموقف؟ ترى ما الذي جعلهم يتربّصون بي أنا بالذات في هذه اللحظة التي حاولت أن اغتسل وأن اتطهر؟ لكنّي فوجئت، ولم احتمل كل هذا الجبروت والصراخ عليّ وأنا عار في الحمّام، دوت صرخاتهم وغضبهم عليّ، في لحظة طار الأمان والسلام من عقلي وهواجسي.. أكيد وهذا ما خمنته بالضبط، بأنهم يريدون الاعتداء الجنسي عليّ، حاصروني، حاولت أن أفلت من بين أيديهم، خلية واحدة من هرمونات الرجولة برزت نحو قشرة الدماغ فاستحالت كي أحكم قبضتي.. تحولت إلى مارد في تلك اللحظة، أريد أن أضغط على حنجرته. هجمت بأصابعي وأنا أضغط على هذه المنطقة الحساسة التي تُفضي إلى الموت المحتّم أشبه بحبّل القنب حين يلتف على رقبة المعدوم، إما الثلاثة الاخرون فقد سقطوا واحدا تلو الآخر، كنت أمام تحدّ وموقف سافر لم استطع السكوت حيالها، إمّا أن اخضع للتعذيب والانتهاك حين يتمكّنون مني، وإما القضاء المبرم عليهم، هرولتُ مبتعدا في جو بارد وأنا الهث لهذه الكارثة التي حلت بي، حاولت أن أُوقف في رأسي صراخهم الذي أثر بي حد الانفجار، كنت مرعوبا وأنا أحاول اسكات هذا  الكائن الشرّير الذي يتردّد صوته  في سمعي وعقلي، حملته معي حتى وصلت المدينة، وسيظل يلهث هذا الصوت في ذاكرتي.. هذا الغول الشرير الذي له رائحة نفاذة تختلط مع الروائح العطِنة.. روائح تأنف عنها النفس لكنها تأتي وتتوالد مع الرياح.. رياح عاتية ضربت البلاد على غفلة من الزمن.. ضربت في الصميم القاصي والداني وهجّرت وابعدت ومارست شتى صنوف التعذيب والقهر البشريّ.. سيظل  تاريخ مشوه في جسد هذا الوطن وهذا الإنسان الذي شلت إرادته  وقدرته على النهوض في زمن أشبه بزمن ذلك السفاح الذي قاد حملته نحو بغداد (هولاكو) بعد أن استباح فيه الدم العراقي.