توني موريسون.. يد شاعرة وقلب عاشقة

ثقافة 2024/02/13
...

  ترجمة واعداد: مي اسماعيل

حوّلت “جيزيل أناتول»، أستاذة اللغة الإنكليزية بجامعة كانساس الحزن العميق الذي شعرت به بعد وفاة المؤلفة الأمريكية «توني موريسون-Toni Morrison” عام 2019 إلى كتاب للأطفال استلهمته من ذكريات الراوية الكبيرة.  عنوان الكتاب: “الفتاة الصغيرة توني والبحث عن الذهب- Small-Girl Toni and the Quest for Gold”؛ وهو غالبا أول كتاب للأطفال مستوحى من حياة الكاتبة الفائزة بجائزتي نوبل وبوزليتزر عن روايات منها “محبوبة- Beloved” و”أغنية سليمان- Song of Solomon”.
درّست جيزيل كتاب موريسون الأخير في الجامعة؛ واستوحت شخصيات كتابها من مؤلفات موريسون. تتحدث جيزيل عن شخصية “بائع الحليب” من كتاب “أغنية سليمان” وهو يبحث عن الكنز قائلة: “شعر (بائع الحليب) بالإحباط عند كل منعطف في محاولته الحصول على الذهب الفعلي. لكنه يكتشف في خاتمة المطاف معلومات مهمة عن أجداده وارتباطاته العائلية والمجتمعية. وقد وجدتُ أن من الجيد وضع تلك الأفكار في كتابٍ للأطفال”. تقول جيزيل إنها حاولت منذ سنوات دراستها الجامعية تقديم كتاب مصور لأدب الأطفال موجها لجميع لأفراد الأسرة؛ لكنها تركت المحاولة جانبا لسنوات عدة، وأنتجت أعمالا أكاديمية غير روائية. عاودت جيزيل المسعى بعد وفاة موريسون؛ وبدأت من تجميع بعض تحولات موريسون الانطباعية في العبارات والصور النابضة بالحياة.
كتبت موريسون بعض كتب الأطفال بمساعدة ابنها “سليد”؛ وهو ما تصفه جيزيل قائلة: “كانت موريسون ترى أن الكتاب المصور هو فعليا الأداة الأفضل لجمع الأجيال المختلفة للنقاش حول المواضيع الهامة. وهذا من شأنه تسهيل الشروع بالحوارات والتفاهم؛ بسبب الطريقة التي يمكن للأطفال الصغار أن يصفوا بها حقائق يخشى الكبار أحيانا الحديث عنها”.

موريسون بعيون طلبتها
في رثاء توني موريسون؛ قالت احدى المتدربات لديها: “حين رأيتُ موريسون للمرة الأولى كانت تجلس على سجادة مكتبها، محاطة بأكداس من مخطوطات الأعمال الأدبية. ضحكت وهي تحمل ورقة واحدة وأشارت لي أنا.. الطالبة الجامعية الصاعدة التي حصلت على فرصة تدريب صيفي بالعمل مع الكاتبة موريسون في دارها. حينها كانت قد حققت موقعها الأدبي بأعمال منها “سولا-Sula” و”العيون الأكثر زرقة-The Bluest Eye” وروايتها الرائعة “أغنية سليمان” عام 1977 عن رجلٍ أسود.  
“قالت: أكتبي رسالة من أجلي، أخبري تلك الشابة أنه يسعدني القيام بمراجعة كتابها”. “وقفتُ انتظر أن تخبرني منطوق الرسالة، لكنها صرفتني بإشارة من يدها وعيناها ترقصان بضوء يعيش فيهما؛ قائلة: اختاري انتِ الكلمات.. افترض أنكِ جئتِ هنا لأنك تريدين الكتابة؛ إذا اكتبي..”. تمضي المتدربة قائلة: “أصبحت موريسون منذ ذلك اليوم عرّابة حياتي الكتابية، والمرأة التي قالت لي: “إذا اكتبي..”. كان قولا بسيطا جدا؛ لكنني سمعتُ كلماتها منذ ذلك الحين ومضيتُ قُدما، واثقة أن الالهام سيعثرّ عليَّ. بعد نحو عام إختيرت موريسون لتكون المتحدثة الأولى في حفل تخرجي من “بارنارد”؛ وهي كلية للنساء فقط. جلسنا منبهرات وهي تحث طالبات صفنا على عدم ترك بعضنا البعض خلفا أبدا، في مسار ما وصفته بالقول.. “حلبة القتال في عالم النساء المهنيات المحترفات..”. اتخذت موريسون من أختّي سيندريلا مثالا في قصتها التحذيرية؛ مُعبّرة عن الأسف تجاه هاتين المرأتين اللتين أساءتا لإمرأة أخرى؛ قائلة: “انكن تتحركن نحو الحرية، ومهمة الحرية هي القيام بتحرير انسان آخر”. “لا غرابة إذا أنني قد حملتُ دعوتها النسوية للعمل والنشاط  في إدراكي كل تلك السنوات؛ ليس فقط لأنني كاتبة بل إمرأة سوداء. وحينما نالت موريسون جائزة نوبل للأدب عام 1993 بكيت وأنا أُطلق صيحات التشجيع لأن العالم قد اعترف أخيرا بعبقرية الفتاة السوداء الصغيرة التي ولدت باسم “كلوي أرديليا ووفورد-Chloe Ardelia Wofford “ بمنطقة لورين- أوهايو يوم 18 شباط/ فبراير عام 1931. نزح والداها (عامل لِحام وربة منزل) شمالا هاربين من التفرقة العنصرية في الجنوب، بعدما  شهد إعدام رجلين من السود بلا محاكمة. وكانت جدتها تعيش مع العائلة أيضا؛ حيث كان الجميع يروي القصص ويتشارك الروايات الفلكلورية؛ مما كان يضع بذور الأدب والشِعر الذي كان بلا شك ينسج خيوطه بالفعل في رأس الشابة كلوي”.

مسيرة حياة
ارتادت موريسون جامعة هاوارد، ونالت شهادة الماجستير في اللغة الإنجليزية من جامعة كورنيل، قبل ان تعود لتدريس الأدب في هاوارد. تزوجت من “هارولد موريسون” وهو معماري عام 1958 وأنجبت ولديها “فورد” و”سليد” قبل أن ينفصلا بعد ستة أعوام. وخلال تلك المرحلة من حياتها قررت أن تُغيّر اسمها إلى “توني” لأن الناس اعتادوا نطق اسمها (كلوي) بصورة غير صحيحة. وكتبت رواية “العيون الأكثر زرقة” عن فتاة صغيرة لم تستطع رؤية جمالها فذهبت تدعو الله أن يجعل عينيها زرقاء اللون. واجه الكتاب تجاهلا عاما في البدء؛ رغم تلقيه نقدا جيدا. ولكي تُعيل نفسها وولديها عملت موريسون مُحررة في دار نشر “راندوم” الأميركية؛ حيثُ قامت بإرشاد جيل من الكُتّاب السود، بما فيهم “أنجيلا ديفيز” و”توني كيد بامبارا”. كما واصلت الكتابة لتصير شخصية أدبية يُحتفى بها بعد كتاب “أغنية سليمان” والفوز بجائزة بوزليتزر عام 1988 عن كتاب “محبوبة”؛ الذي استند إلى قصة حقيقية عن امرأة سوداء من العبيد فرت من مالكيها، وحينما جرى القبض عليها مجددا قامت بذبح طفلتها الرضيعة (واسمها محبوبة) بدلا من تركها تعيش في العبودية. بعدها نالت موريسون الكثير من الأوسمة؛ منها الميدالية الرئاسية من أول رئيس أميركي من أصل أفريقي، عام 2012.
أحدثت توني موريسون (التي قامت بالتدريس بجامعة برينستون حتى تقاعدها عام 2006) تحولا جذريا في روحية الأدب الأمريكي، وأعطت للجمهور خلال مهنة أدبية سامية امتدت لستة عقود أحدى عشرة رواية ومسرحيتين وخمسة كتب للأطفال، وبضعة أعمال غير روائية ونصوصا معدة للتقديم الموسيقي.
واظبت موريسون على الكتابة من منظور شخصياتها السوداء؛ لتؤكد أن منظور البيض؛ المنتشر جدا في المجتمع الأمريكي؛ لم يكن أبدا وجهة النظر المسيطرة. قدمتنا موريسون إلى العالم بكل أحزاننا وأمجادنا المُعقّدة؛ بيد شاعرة وقلب عاشقة؛ فغيّرت بذلك وعي عصرٍ بذاته.
تمضي المتدربة في ذكرياتها: “أرشدتني موريسون في مواضيع الكتابة، ثم في منظور الأمومة؛ قائلة لي: “أنتِ مصدر الأمان لأطفالك في العالم؛ وحينما يدخل أطفالك إلى الغرفة تلمع عيناكِ بشكلٍ يؤكد لهم قيمة كيانهم في العالم”.. أضاءت عيون توني موريسون كل غرفة كانت فيها، وحررتنا ببساطة (بعملها وحياتها) عندما أكدت لنا أنه بغض النظر عما قد نواجهه في هذا العالم، فإننا (من خلال عملها) محبوبون”.
عن منشورات جامعة كنساس، موقع “إيسنس- ESSENCE”