منعم الحيالي.. الرسم ومتطلبات الخيال

ثقافة 2024/02/14
...

 د.جواد الزيدي

                                                       

يتخذ الفنان منعم الحيالي من التعبيرية التجريدية منهجاً لاشتغالاته البصرية عبر المزاوجة بين اتجاهي (التعبيرية والتجريدية)، اللذين تمَّ تجنيسهما في تاريخ الرسم، إذ يتقصد الشكل الواقعي ومحاولة تغريبه في ضوء معالجاته التقنية النهائية والابقاء على بعض ملامح الواقع، بوصفه منهلاً للرسم لا يمكن التخلي عنه بأي شكلٍ من الأشكال.

فأشكاله لا تقطع صلاتها مع الواقع ونمط موجودات الطبيعة الغرائبي، حيث تتمظهر تلك النماذج الانسانية طولية ممشوقة معدومة الملامح، تتفاعل مع موجودات أُخرى في سياق المماثلة الأُسلوبية، وكأنه يتقصد الاحالة الى مفردات بعينها تتجلى في خطابه البصري، مثل الزوارق، والأسماك، والقصب، إنها استعارات من تعاليم الأهوار والمستنقعات التي تسجل حضورها بقوة في البيئة العراقية، ومن أجل التأكيد على هوية الموضوع الفني وبنية شكله الخارجي، فإنه يلجأ الى الموروث الشرقي، والعراقي الشعبي على الخصوص ويستعير وحدات هندسية مثلثة، وأُخرى اسطورية تلك التي ترسمها النسوة على المنسوجات الشعبية. 

وهنا تتم المزاوجة بين الشعبي والاسطوري من جهة، والواقعي البيئي من جهة أُخرى، فضلاً عن تفعيل فضاءات حُلمية ليصنع منها خطابه الجمالي بتقنيته الخاصة واستخدامات اللون، وتوظيفه على السطح التصويري بمهارته الخاصة في صياغة فكره الحلمي من مواد الواقع وموضوعاته وامكانية تضايفها مع مواد مجتلبة من الخيال.

يعتمد الألوان الحارة وما بينهما من تدرج في توشيح شكله الظاهري، حيث سيادة (الأحمر، والأزرق، والبرتقالي، والبنفسجي) وكل ما يرتبط بهذه المنظومة التي تفرضها طبيعة المعالجة المضمونية، أو بنية الدلالة في مجمل الخطاب، حيث تتحول بعض الفضاءات أو التفاصيل الى ريش طائر، على الرغم من مفارقة الشكل الظاهر للنوع الذي تجترحة مخيلته، حين تتحول بعض الفضاءات، وشعر رأس الأشخاص الى ريش طائر تبلل بماء المطرالمنسكب من سماء الحلم. 

وبهذه القصدية فأنه يستجلب تلك الاستعارات والهجنة الشكلية المُنتجة لمعنى الدلالة الكامن في التأويل الذي يقتضي حتماً تفكيك تلك البنى العلامية في لوحته، أو في مجمل خطابه الذي حاول تكريسه خلال عقدين أو أكثر من السنين، ليُصبح بصمته الخاصة ونعوته التي تلتقي مع توجهاته الفنية في حقل الرسومية العراقية.      

يتمسك الحيالي بتحويل الأحلام الى واقع يتجسد عبر الصورة مطمئناً الى أن صورة الخيال، تمثل الحقيقة المطلقة التي يبحث عنها ولا يعتريها الشك في لحظة ما، منتميا إلى توصلات (الكوجيتو الحُلمي) الذي يستمد خصوبته وحضوره من سلطة الخيال الحر، ولذلك أطلق المديات الواسعة لهذه السلطة بالترحال الى آفاق الصورة المستمدة منها، حيث تتجلى بطرق اشتغال ومستويات نظر عدة، فقد نثر مفرداته الجزئية أو (مونادات) الحلم فوق بنية صورية كلية تجتمع عندها لوحته المرسومة بوعي مستيقظ استثمر فيها علامة رئيسة هي المرأة المنتظرة عند باب الحلم، لتجعل القلب مركزاً للتفكير والتخيل، أو صورة المرأة المحلقة مع كائنات تنتمي للبيئة ذاتها على بساطها السحري فوق أبنية تم تجريدها إلى عقود طولية محدبة تفتح بواباتها من أجل مرور الشذرات المعتمرة في القلب، وهي تتحول إلى صوره على هيئة رذاذ يتخذ مسارات متعارضة الجهات عندما يحط به من علويته، ويصبح واقعاً محسوساً من خلال الرؤية والزخرف اللوني والتزييني المرافق.

ويستمر الحيالي في البحث الجمالي الملتصق بجوهر خطابه البصري متبعاً الطريقة التقنية ذاتها في التعامل مع المخيلة نزوعاً إلى زرقة اللون وتدرجاته التي تقترب من البياض، والاحتفاظ بدلالته الرمزية المتعددة التي تتجاوز الكوني إلى مسميات أكثر واقعية، وإن الصباحات المحملة بالندى خارج حدود النوافذ والمداخل تضج بموجودات واقعية دائمة الاستحضار في الممارسات الناتجة من سلطة عليا بحسب المزاج العام مثل (الطيور، الديك، الزوارق، الأسماك، النخيل، الأقراط) التي تحتفي بصورها الأحلام الملونة، بما يُنعش ذاكرة المرأة التي تنتظر عند تلك المداخل، بوصفها كائناً يعتمر الحلم ويذهب اليه بقوة ويتمسك به للمكوث طويلاً من أجل المعنى الحياتي الذي تريده، أو هي صورة الحلم التي يقبض عليها خيال الآخر، فيختار علاماته التي يبثها في ثنايا اللوحة انطلاقا من مرموزات الواقع المعيش التي تستجيب لمتطلبات التخيل، حين يتم استدعاؤها لتكون مفردات تؤسس لعلاقة جمالية بين السطحي والعميق في بنية اللوحة الكلية القائمة على مساحة التفكير الحلمي، بوصفه معرفة متقدمة تتشيأ على مستوى العياني والمرئي وتقدم حلولاً جمالية تستعصي على التفكير المنطق أو في معادلة الرسم التقليدي.