«صَرَّ دُرّ».. من توهّجات تراث الشعر العربيّ

ثقافة 2024/02/14
...

  ريسان الخزعلي


(1)

في تراثنا الشعري الكبير، وفي كل عصوره، هناك (مَن) يمتلك توصيفاً شعرياً عالياً قادماً من شعريّة وشاعريّة متميزتين بقياسات عصرهما، وما زالا يحتفظان  بعصرية أخرى ممكنة، إلّا أن الضوء يُحجب عن خيمته، نسياناً أو تجاهلاً بفعل عوامل عدّة لا ترتبط بمحددات الإبداع. ومثل هذا الحجب يحصل حتى في عصرنا الحالي مع شعراء مهمّين لهم خصوصياتهم وانفراداتهم. ومن بين عوامل الحجب هذه، ماهو سياسي أو اجتماعي أو ماهو متعلّق بخصوصيات وظروف الشاعر ذاته أو بشيوع شهرة بعض الشعراء من مجايليه بما يفوق ممكناته في الظهور والتسابق معهم على الشهرة والضوء أو بانحيازات الباحثين والمحققين واتجاهاتهم وطبيعة ميلهم وتذوّقهم المعرفي والفني.. إلخ من أسباب معروفة.

والشاعر «صَر َّ دُرّ» من بين مَن ينطبق عليهم ما تقدّم من القول. وصَر َّ دُرّ هذا، شاعر وكاتب عربي من العصر العبّاسي، وهو الرئيس أبو منصور علي بن الحسن بن علي بن الفضل البغدادي.

تقول الترجمات القليلة التي كُتبت عن حياته وشعره: كان أبوه بخيلاً، ولذلك لُقّب بـ (صَرَّ بَعْر). وحين اشتهر شعر الرئيس أبو منصور، قال له نظام الملك، أنت (صَرَّ دُرّ) لا (صَرَّ بَعْر). وهكذا اشتهر شاعراً بـ (صَرَّ دُرّ).. توفّى سنة 465 هج على أثر سقوطه في حُفرة حُفرت لأسد.

(2)

لم تتوافر المكتبات العربية على أشعاره -على حد اطلاعي - إلّا من خلال ديوانه الصادرعن دار الكتب المصرية – القاهرة 1934 بعنوان ديوان صرَّ درّ)، وكذلك  في مختارات أدونيس في كتابه ذي الأجزاء (ديوان الشعر العربي) وقد منحهُ تقديراً لأهميته الشعرية مساحة تتناسب مع هذه الأهمية.

ومن شعره الذي يمكن أن يوصف بأنه من توهّجات تراث الشعر العربي، هذه النماذج:           

* «أرى الطيفَ كالمرآة يخلقُ صورةً/ خِداعاً لعيني مثلما يسحرُ الصدى/ وحَيّ طرقناهُ على زور موعد/ فما إن وجدنا عندَ نارهمُ هدى/ وما غفلت أحراسُهم غير أنّنا/ سقطنا عليهم مثلما يسقط ُالنّدى/ نزحت دموعي بعدهم من أضالعي/ مخافة أن تطغى عليها فتجْمُدا»...* «وكأنّما رُدناي يوم لقيتُها/ بالدمع قد نُسِجا من الأجفان/ وَلو انّهُ ماء لقالوا: دمعُهُ/ رِيقٌ وجَفْنا عينهِ شفتان»...* «وقفنا صفوفاً في الدِّيار كأنّها/ صحائفُ ملقاة ٌ ونحنُ سطورُها/ أيا صاحبيَّ استأذِنا لي خُمرَها/ فقد أَذنت لي في الوصول خدورُها/ هَباها تجافَت عن خليلٍ يروعُها/ فهل أنا إلّا كالخيال يزورُها؟/ وقد قلتما لي: ليس في الأرض جنّةٌ/ أما هذه فوق الركائب حورُها؟/ فلا تحسبا قلبي طليقاً، فإنما/ لها الصدرُ سجنٌ وهو فيه أسيرُها».

(3)

وعن أهمية (صَرَّ دُرّ) الشعرية، قال ابن خلّكان في (وفياته) أنّهُ أحد نجباء شعراء عصره، جمع بين جودة السبك وحُسن المعاني، وعلى شعره طلاوة رائقة وبهجة فائقة. ويمكن أن نُضيف لقول ابن خلّكان محنة الشاعر الوجودية التي يتطامن معها بالأسئلة: «أَأَ سيرُ في الليل البهيم فأهتدي/ وأَضلُّ في إِدلاج ليلٍ

مُقْمِر..؟».