في الليالي العميقة

ثقافة 2024/02/14
...

أحمد عبد الحسين

قلّةُ معرفة

كم مرة قلتُ أحبّ اللغة العربية؟

يبدو أني سأظلُّ أقولها إلى لحظة الصمت الذي ليس بعده كلام. حديثي الداخلي، حديث نفسي بيني وبيني بالعربية لا بلهجتي التي أضطرّ إلى التكلّم بها، فلولا أن يطاردني الساخرون المستهزئون الذين طاردوا عبد الأمير الورد لما تكلمتُ إلا بالعربية. كثير من أحلامي بالعربية وأحبّها.

مرة سمعتُ هاتفاً في منامي يقول (غيومٌ جديدة في أفق الإنسانِ لم تحاصرْ بعدُ) فأثبتُّها في قصيدةٍ. وفي مرة أخرى سمعت من فم الحلاج في المنام دعاء عجباً (يا منْ لا باب له). وأول أمس كنت كأني أحادث أحداً قال لي: (باعثُ كلّ عملٍ قلّة معرفة). حين استيقظتُ قدّرتُ أني قرأتها قبلاً عند ابن عربي ولم تسعفني ذاكرتي.

تذكرت الآن أنَّ هناك عبارات لابن عربي تجري هذا المجرى كقوله: (المعرفة لا تترك للهمّة تصرفاً) أو قوله: (العارف التامّ في غاية الضعف والعجز)، والمعنى واحد. 

والمؤدى أنَّ اليقين انقطاع عمل، لذلك كان الموت، وهو لحظة اليقين الأكبر، نهاية كلّ عمل وأمل.

من حسن تدبير الخالق أنْ جعلنا غير ذوي يقين إلى أنْ يأتينا الموت.



أطفئ السراج

أمس، انتهى بي حوار مع صديق إلى أنْ يُذكّرني بقول الإمام عليّ لكميل: “أطفئ السراج فقد طلع الصباح”، بعد أنْ سأله كميل: زدني بياناً، في الحديث المعروف بـ”حديث الحقيقة.”

سألنا بعضنا: ما الصباح الموجب لإطفاء السراج؟ وما السراج؟ وفكرت الآن بالتالي:

أنهى الإمام كلامه لأنَّ الليل انقضى، وحديثٌ عن الحقّ والحقيقة لا يكون إلا في ليلٍ وثمة مصباحٌ ينير الليل. ذلك أنَّ تأمّل الحقيقة نورٌ لا ضياء، والنور لا يكون إلا من قمر أو سراج، والضياء لا يكون إلا من شمس مشرقة.

وفي آية النور التي قال عنها الشيخ ابن عربيّ إنَّ فيها “سرّ ارتباط الإله بالمألوه”، مثّل الله نوره بمصباح ومشكاة وزجاجة وزيتٍ، أي بنورٍ قريب محدودٍ، ولم يمثله بنور الشمس البعيد الساطع.

مصباح في مشكاة: نورُ بيتٍ يصلح مكاناً للتأمل، نور يتحرك ببطء حدّ أنه يكاد يكون ساكناً. إذ كلّ نورٍ إنما يتحرك ببطء “نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم”، وكلّ ضوء سرعةٌ لا تُدرك.

لا بدّ من نور مصباح لإنشاء كلام عن الحقيقة. ويُستفاد من كلام ابن عربيّ أنَّ المصباح هنا أقدر من الشمس على كشف الحقّ والحديث عنه لأنَّ في المصباح معنى تنفير الظلمة، نوره يطرد الظلام مع بقاء الليل ليلاً، تماماً كما أنَّ الكلمة الإلهية “كنْ” تنشئ الوجود مع بقاء العدم عدماً.

مداولات الحقيقة إنما يُهمَس بها في الظِلّ، بين بين، حيث نور وعتمة يتساكنان معاً في موضع واحد. فإذا طلعت شمس الشموس على هذه الهياكل وانهزمت الظِلال لم يبق شيء للتمتمة به، فوجب الصمت، صمت الدهشة. ألم يقل الحلاج: “مواضع الحقيقة دهشٌ وحيرة”؟ هكذا.. كلام الحقيقة ممكنٌ لكن مواضعها لا تُقال.

نهاية كلّ تأمّل، هي نهاية الليل، وطلوع شمس تمحو النور والظلمة وما بينهما من ظِلال ووهم وخيال.