د. طه جزاع
قد تتداعى إلى ذهن بعض القراء أحداث رواية "مزرعة الحيوان" لجورج أورويل، وهم يمضون مع رواية أمجد توفيق "الحيوان وأنا" الصادرة مؤخراً عن دار الشؤون الثقافيَّة العامة، مع أنه لا رابط جوهرياً بين الروايتين، ولا تشابه بينهما باستثناء أنَّ الحيوانات فيهما تتكلم أو لها مشاعر وأحاسيس بشريَّة.
وبخلاف حيوانات أورويل الغاضبة المتمردة المتآمرة التي تقوم في النهاية بثورة على صاحب المزرعة، فإنَّ حيوانات توفيق وبالأخص الكلب "ليل" والحصان "ظلام" حيوانات مسالمة، عدا الحيوان الثالث المضطرب الكامن داخل شخصيَّة دانيال المعتكف في المزرعة، وهو الحيوان الذي "يعاني بصمت عندما يجرجر خطواته".
هذا الحيوان هو دانيال نفسه!. اعترفُ بأنَّ أول وآخر ما قرأت لأمجد توفيق – قبل روايته القصيرة هذه – يعود إلى منتصف السبعينيات، وأقصد بذلك مجموعتيه القصصيتين "الثلج .. الثلج" 1974، و"الجبل الأبيض" 1977، يومها كانت القصة القصيرة على نمط انفعالات الروائيَّة الفرنسيَّة ناتالي ساروت هي الموضة الأدبيَّة السائدة عند جيل القصاصين الشباب، وكان أمجد مختلفاً عنهم بصوره وعوالمه ولغته الثلجيَّة الجبليَّة البيضاء، الأمر الذي يترك في ذهن قارئه انطباعاً لا يمكن أنْ يزول بسهولة، مثل ذلك الانطباع الذي بقي عالقاً في ذهني كلما ذُكر اسمه، قبل أنْ يغيبَ عن المشهد الأدبي لمدة تزيد على العشرين عاماً، حتى صدور مجموعته "قلعة تارا" عام 2000 ليعود بعدها نشيطاً منتجاً لأكثر من سبع روايات ومجموعتين قصصيتين، آخرها "الحيوان وأنا" التي لولا مصادفة لقائي به لما قرأتها، فقد كنت أفضل بقائي على دهشة الثلج الأولى، والانطباع الأول عن ذلك الأديب الشاب المهذب الأنيق الذي بدأ يشقّ طريقه وسط أدباء بغداد المُعتَّقين على أريكة مقهى حسن عجمي وقد أكل عليها وعليهم الزمان وشرب، والمنشغلين وقتذاك بقصة "سيدنا الخليفة" لعبد الستار ناصر وعواقبها الوخيمة.
أمجد توفيق ببساطة هو رسامُ الطبيعة على ورق القصة والرواية، إنَّه يجيدُ الوصفَ لكل ما فيها من أنهارٍ وأحجارٍ وأشجارٍ وشجيراتٍ وزهورٍ ونباتاتٍ وغاباتٍ وجبالٍ وثلوجٍ وغيومٍ بيضٍ، وبشرٍ وحيوانات، مثل حيوانات مزرعته، وفيها الكلب والحصان والقطط والدجاج، ودانيال الذي اكتشف أيضاً أنَّه حيوان مثل بقيَّة الحيوانات بعد هروبه من المدينة بحثاً عن الصفاء الروحي، وهو سعيدٌ مع حيواناته، حتى أنَّه يرفضُ اقتراحَ أصدقائه بترك المزرعة والعودة إلى المدينة "تعرفون أيها الأصدقاء أنَّ الحمير لا يكذبون، فالكذب نتاجٌ إنسانيٌّ صنعته اللغة، والحمير لا يخلفون وعداً لأنهم بالأساس لا يمنحونه"، هنا يحضر أيضاً مدني صالح في لائحة حقوق الحمار "الذي لا يزني ولا يسرق ولا يخون ولا يكذب ولا يغش ولا ينافق". لكنْ لا يمكن لحياة العزلة في المزرعة أنْ تستمرَّ ما دامت المدينة قريبة، وما دام الأصدقاء يترددون على المزرعة، وابن يدرس في لندن. وفي النهاية لا بُدَّ من جريمة يذهبُ ضحيتها الحصان، ولا بُدَّ من فتاة مثل موج هاربة من الاختطاف، ولا بُدَّ من امرأة مثل ذكرى تزيل الرماد عن جمرة الجنس. وتلك حكايات مثيرة عن دانيال الحيوان، لم يفسدها غير تلك السطور المُقحَمة حول الدستور والسياسة والسياسيين، التي لولاها لكانت الرواية خالصة لقضيَّة الحيوان الكامن في الإنسان.