عساك بخصباك

الصفحة الاخيرة 2024/02/18
...

محمد غازي الأخرس
ويقولون: فلان مخسبك، وفلانة مخسبكه، بمعنى أنهما لا يحسنان إدارة أمورهما المالية، وتتجه دلالة "الخسبكة" إلى تضييع المرء دفة حياته على السفاسف.

وفي استعمال آخر تدور الدلالة على افتقار المرء وفاقته، لكن في سياق التداول اللغوي يسهم "المخسبك" بنفسه في فقره من خلال عاداته الاجتماعية وميله للكسل، أو اتصافه بالتبذير بسفاهة وعدم حسبان للمستقبل.

أما أصل المفردة، "خسباك"، فيعود إلى الربع الأخير من القرن الثامن عشر وتحديداً إلى عام 1787 حين مرّ العراق بفترة مجاعة وفقر وقحط غير مسبوقة، فترة أطلق عليها الناس تسمية "خصباك"، وربطوها بالقحط فشاعت كناية "قحط خصباك" لوصف حالة الناس والحياة آنذاك. 

يروي المؤرخون أنه بسبب تلك المجاعة الرهيبة انتشر مرض لم يعهد سابقا، ولعله نوع من فقر الدم الشديد، ومن أعراضه اصفرار الوجه مع ضعف عام في البنية لدرجة أن الناس ما عادوا يقدرون على السير في الطرقات، وأصبح منظر سقوطهم وموتهم في الشوارع معتاداً.

أطلق الناس على المرض حينها تسمية "خصباك"، وباتوا يصفون من يسقط به بأنه "تخصبك"، ثم اشتقوا من تلك الكناية دعاءً بالشر يطلقونه على من يكرهونه بالقول: عساك بخصباك، وهو مرادف لقول البغادة: يطبك مرض. 

من هنا شاع اسم العلم خصباك لإبعاد العين والحسد عن المواليد المنحوسين، إذ كانت الأمهات ممن لا يعيش لهن أولاد يسمينهم بأحقر الأسماء إبعاداً للعين والحسد كـ "زبالة" و"بعرور" و"جرو" و"خصباك" وغير ذلك. 

يروي المؤرخ البصري حامد البازي أن مرض خصباك انتشر في البصرة ولم ينجها منه سوى الشيخ ثويني أمير المنتفك، الذي احتلها بينما الخصباك يحصد أهلها، فعمل على محاصرة المحلات التي انتشرت بها الجائحة أو ما ظنوا أنها جائحة، وتفاوض مع الممثل السياسي الفرنسي في البصرة لإحضار بعثة صحية تسعف الناس، وكان أن نجح بذلك. 

لغوياً، تبدو مفردة خصباك وكأنها نحتت من جذرين، أحدهما "خصب" والآخر "آك"، وثمة قرينتان على هذا، الأولى أن دلالة الخصباك ترتبط بالقحط والمرض، فهي نقيض الخصب، والقرينة الأخرى أن اللاحقة، "آك"، تعني في العربية الشدة والمرض وسوء الحال، فالـ "أك" عند العرب ضيق الصدر وسوء الخلق، ويقولون: أَكَّ فلانٌ: أي ضاق صدرُه، وساءَ خُلُقُه، وقال ابنُ الأعرابيّ: ائتكّ الرجل، إذا اصطكّتْ رجلاه، والأكّة هي الشديدة من شدَائدِ الدهر كما يقول الخليل بن أحمد. 

بهذا، يبدو ربط الخصب بالآك منطقيا تماماً، فكأن المعنى المتولد هو الشدة أو غياب الخصب. 

لعل هذا المصدر اللغوي منطقي تماما لولا وجود مسار آخر له علاقة قوية بالخصبكة أو الخسبقة، ألا وهو الجذر "خبق" المشتقة منه كناية "خبكه" التي تطلق على بعض النساء، وهو ما سأعود له لاحقا فانتظروني .