دجلة يُزيل التجاوزات

الصفحة الاخيرة 2024/02/26
...

عبد الهادي مهودر



لا يمكن تخيّل العراق من دون نهريه الخالدين دجلة والفرات، ولا يمكن تخيّل مدينة بغداد بلا نهر دجلة (بليّاك يا ضيعتي والعمر ياويله) كما تقول عاشقة النهر لميعة عباس عمارة في قصيدتها المغناة (اشتاگلك يانهر)، وكل 

متحدثٍ عن زوالهما عند شح المطر وأزمة الجفاف يصمت مع أول زخات المطر، وتتوقف كل التصريحات المنذرة بالزوال الى إشعار آخر ويمحوها المطر الذي يتكفّل بالحلول الشاملة لسوء إدارة استخدام المياه والتغيّر المناخي وتراجع الإمدادات من دول المنبع، بل إن المطر تكفّل بإزالة التجاوزات 

عن نهر دجلة حين وقفت الدوائر المسؤولة متفرجة على التجاوزات الصغيرة والكبيرة، خوفاً وطمعاً، التي أكلت 

من كتفي النهر في وضح النهار، واستغلت ضفتيه المسالمتين 

أبشع استغلال بتشييد مواقع سياحيَّة وترفيهيَّة ودور سكن، والمتجاوزون يعرفون من أين تؤكل النهر.

وكان ارتفاع منسوب مياه نهر دجلة مشهداً سارّاً للناظرين الى مائه ووجهه الحسن ولونه الفضّي، ولعموم العراقيين الذين حزنوا لرؤية قاع النهر بالعين المجردة قبل بضعة أشهر، حتى أنّ القنوات الفضائيَّة نقلت صوراً عن مباراة بكرة القدم على قاع النهر في مشهد يعبّر عن حجم الكارثة، وصدّقنا بأن نهر دجلة سيزول ونعبره مشياً على الأقدام وتنتفي الحاجة الى الجسور لولا أن رحمنا الله بهطول أمطار غزيرة رفعت مناسيب المياه، ورفعت الحرج عن الجهات المسؤولة عن إزالة التجاوزات، وأسقطت النظريات والنبوءات أو أجلتها الى الصيف المقبل، ففي فصل الصيف الطويل فسحة كبيرة للبحث والتنظير ولوم الحكومات المتعاقبة على عدم إنشاء سدود جديدة، وعندما يأتي الشتاء يحل المطر أزمات الجفاف والتبخّر والتصحّر والهجرة والعطش والتجاوزات دفعة واحدة، ونتغزّل بدول المنبع بفضل المطر الذي يروي الغزل ويرطب الأجواء ويفتح بوابات السدود المغلقة، فإذا حظر الماء بطلت المباحثات ومضى كلٌّ الى غايته، وخدم نهر دجلة نفسه بنفسه وأزال همومه الثقال ودافع عن حدوده المتجاوز عليها واستعادها بطريقته الخاصة ولم ينتظر أحداً، على أمل موجة أمطار جديدة وهجمة مضادة تعزز صعوده الأخير.

يا دجلةَ الخير خلِّي الموج مُرتفعاً، طيفاً يمرُّ وإن بعْضَ الأحايينِ.