أحمد عبد الحسين
أجري معي مؤخراً حوار صحفيّ عن الشعر ، وكان من ضمن الأسئلة سؤال عن البدايات وهذا نصه: “حدثنا عن المراجع والمصادر التي مارست تأثيرها في أحمد عبد الحسين في النشأة الأولى، وقادت خطاه إلى الشعر”؟
فكان جوابي:
نشأت في بيت يمنح الكتاب توقيراً كبيراً، مكتبة ليست كبيرة ورثها أبي عن أبيه رجل الدين المعمم، ولهذا كانتْ دينية وإنْ لم تخلُ من دواوين الشعراء كالمعلقات وديوان المتنبي والجواهري، كبرتْ المكتبة لاحقاً على يد أخوتي الأكبر سناً لكن ظلت الغلبة لكتب الدين من مدونات فقهية وحديثية. لكنّ احتراماً «مبالغاً فيه أحياناً» للكتاب كان يدهشني وأظنه أسهم في حبي للكتب. أذكر مثلاً أن خصاماً نشب بيني أبي وعمي الذي يسكن الكوت، الأمر الذي جعل عمي يطالب بحصته من كتب أبيه فأخذ قسماً من هذه الكتب معه إلى الكوت، كان ذلك يوم مناحة في بيتنا، وظل أبي إلى آخر حياته يتذكر خسارته للكتب التي أخذها عمي للمناكفة.
حبّ الكتاب إذن كان ذا أثر في تكويني، ثمّ يحضر ذلك الباعث العميق على جعل كل شيء تراجيدياً، كان أبي قارئاً حسينياً يتلو المقتل في المجالس وكنت أحياناً أرافقه وأظلّ مشدوهاً لهذا السحر الذي يمارسه جاعلاً الرجال الأشداء ينتحبون كالأطفال. هذه التراجيديا كوّنتني. حفرت في وجداني ما لا يمكن أن يُمحى في ما بعد. وحين تلتقي التراجيديا بعاطفة مشبوبة لصبيّ يحبّ الكتب سيولد شاعر لا محالة.
الشعر حتميّ في مدينة كمدينتي الثورة «مدينة الصدر الآن» لأن الشعر هو الفنّ الوحيد المتاح لنا نحن الفقراء. فهذه البيوت التي يفتح الأطفال عيونهم فيها ولا يجدون آلة موسيقية ولا تتوفر لهم موادّ للرسم، لا بدّ أن يكثر فيها الشعراء الذين لا يحتاجون سوى إلى ورقة وقلم.
أسرني السياب مبكراً، ما أن قرأته حتى شعرتُ أني مخلوق لأقول كلاماً كهذا، كلاماً يشتمل على طاقة إنشادية عالية مع تفجّع يعيد عليّ تفجّع الأب وهو يقرأ المقتل، فقلّدتُ السياب. لأشهر وأنا أكتب على ضوء سراجٍ سيابيّ نصوصاً أعجبت أخوتي الكبار، فاستسلمتُ لمديحهم. ثم في لحظة عظيمة وأنا في الرابعة عشرة من عمري اكتشفت محمود درويش الذي أنساني السياب وجعلني أسخر مما كتبت. لكني صرت حينها متلبساً بوهمي موقناً أن الشعر سيكون قدري، ثم توالت القراءات والإيغال في التيه إلى أن أرسلت نصاً لمجلة الطليعة الأدبية ـ بإشارة من صديقي وابن خالتي الشاعر الراحل خالد جابر يوسف ـ وكم كانت دهشتي حين رأيت النص منشوراً والشعراء يتحدثون في مقهى حسن عجمي عن ولادة شاعر، لا أنسى أن الشاعر زاهر الجيزاني امتدح النصّ أمام جمع من الشعراء ما تركني مزهواً لأيام، ثم اتسعت الدهشة وأنا أقرأ مقالاً للناقد فاضل ثامر يمتدح نصي الشعريّ بعبارات مؤثرة.
بالعودة إلى سؤالك فأنا أظنّ أن مصادر شعري كانت التراجيديا الدينية التي تربط الشعر عندي بالغيب والتفجّع، وتجعل النصّ أشبه ما يكون بدعاء مرفوع من تحت إلى أعلى، من ذات مفتقرةٍ إلى مجهول ما، على الضدّ من شعرِ كثير من الشعراء الذين يتنزَّل عندهم الشعر من فوق، من أنا علوية أو صمدية. وكما أن الفقر كما أسلفت هو سبب رئيس للشعر فهو يسم الكتابة بميسمه، الشاعر مسكين وحياته وحياة نصه أيضاً أشبه بيدٍ مبسوطة للدعاء واستنطاق الغيب.