باتجاه الجسر .. بعيداً عن الجرذان

ثقافة 2024/03/06
...

حسن السلمان

في الساعة الخامسة فجراً تنطلق تلك الموسيقى التي تشبهُ مارشاً عسكرياً صاخباً من الأبواق وصفير القطارات وقرع الطبول لإيقاظ سكان المدينة.. أتململُ في فراشي البارد. أعتدلُ بجلستي بصعوبة. أشعرُ بآلامٍ في الظهر وأسفل العنق. أمدُّ يدي وأتناول علبة السجائر. أدخن سيجارتين وأذهب إلى شرفة شقتي التي تقع في الطابق الأخير من بناية تتكون من سبع طوابق. على صوت ذلك المنبّه الموسيقي المخيف تصحو المدينة. تُضاء مصابيح الشقق بوقتٍ واحدٍ تقريباً، وتتخاطف من وراء ستائر النوافذ الشفافة مخلوقاتٍ بشكلٍ متقاطع. تبدو لي البنايات السكنية الاسمنتية العالية ذات اللون الرصاصي في العتمة كما لو أنها أعمدة عملاقة لبناءٍ أثري يعود بناؤه إلى آلاف السنين. ارتدي بدلة عملي الزرقاء الملطخة بالزيوت والتي تفوح منها روائح الوقود وأنزل للحاق بحافلة المصنع مع جموع الناس التي تنزل مسرعة للذهاب إلى العمل مثل أفواج من الفئران المذعورة تهبط من على متن سفينة على وشك الغرق. في العتمة التي بدأت تتكشف شيئاً فشيئاً ألمحُ وجوهاً تتشابه من حيث التقاطيع المائعة والعيون شبه المفتوحة ومؤخرات الرؤوس التي تغطيها الياقات المرفوعة للمعاطف الجلدية السود التي تلمع تحت زخات المطر.
أرمي بنفسي على مقعد بجانب النافذة المضببة وأنا بالكاد أفتحُ عيني َّ من شدة النعاس إذ لم أنم سوى ساعاتٍ قلائلَ منذ تلك الليلة التي اكتشفت فيها الجرذان التي تشاركني شقتي.. في تلك الليلة، وبعدما تناولتُ عشائي وتفرجتُ ساعة على التلفاز، أطفأتُ المصباح وذهبتُ إلى السرير، لكن ما إن أغمضت عينيَّ حتى سمعت أصواتاً تشبه احتكاك أشياء معدنية ببعضها البعض ووقع خطى خافت فرميت الغطاء وقفزتُ إلى زرّ مصباح النور وفتحته ولمحتُ مخلوقاتٍ صغيرةٍ تهربُ وتختفي بلمح البصر في مكان لم أتبيّنه لحظتها.. بحثتُ في شقتي الصغيرة التي تتكون من غرفة نوم وصالة ومطبخ وحمام ومرحاض مزدوج ولم أرَ شيئاً.. اطفأتُ المصباح وعدتُ إلى السرير فعادت الأصوات ثانيةً فقفزتُ مرة أخرى ولمحتُ بضع جرذانٍ تهربُ وتدخلُ في الجدران.. اقشعرَّ بدني وشعرتُ بالدوار وعاينتُ الجدران ولمحتُ ثقباً صغيراً قرب زرّ النور.. في اليوم التالي أغلقته بالملاط ولكن دون جدوى: ما إن أطفئ المصباح حتى تخرج الجرذان من مكان سري تعبتُ كثيراً لأجدهُ ولم أفلح. وضعتُ لها السموم القوية والمصائد ولم أرَ جرذاً ميتاُ أو حبيساً في المصيدة. توالت الليالي والجرذان ما إن أطفئ المصباح حتى تخرج وتحرمني النوم. حاولتُ أن أنام والمصباح مشتعل لكنني لم أستطع. جرّبتُ أن أنام ووجهي مغطى لكن مجرد الشعور بأن المصباح مشتعل يجعل النوم بعيداً عني. ومما زاد من عذابي وشعوري بالقرف كانت رائحتها النتنة وبرازها الذي ينتشر في كل مكان.
ذات يوم وبسبب شعوري بالإرهاق والقرف تغيبتُ عن عملي ورحتُ اتجولُ بالمدينة متحاشياً دوريات رجال الشرطة الذين يلقون القبض على المتسربين عن العمل والمتسكعين والشحاذين ومن لايحمل تصريحاً رسمياً يسمح له بالتجوال أثناء أوقات العمل.. كانت الشوارع خالية إلا من عمال النظافة، وبضع سيارات تسير ببطء، وقليل من المارة الذين كانوا يسيرون على عجل بمحاذاة الجدران.. مررتُ بتمثال الراعي الكبير المصنوع من البرونز بقامته المديدة ورأسه الكروي، ووجهه الممتلئ الصقيل، وابتسامته العريضة، ومعطفه الطويل، وذراعيه المفتوحتين كم لو أنه يستعد لاحتضان أحدٍ ما.. توقفتُ عن قدميه الكبيرتين وأديتُ التحية واتجهتُ صوب النهر..
كانت ضفة النهر خالية تماماً.. اخترت صخرة قرب الجسر الفولاذي العتيق وجلست عليها مراقباً تيار الماء السريع الجريان وأنا اتلفت مابين الحين والآخر خشيةً من مداهمة رجال الشرطة للمكان.. نظرتُ إلى الجسر ولمحتُ امرأةً جالسةً وظهرها مستند إلى إحدى ركائز الجسر وهي تتلفت أيضاً.. من هيئتها المزرية حيث الثوب الرث والمنديل الممزق الذي يغطي نصف وجهها، وتلفتها المستمر، عرفتُ بأنها إحدى المتسكعات اللواتي دائما ماتطاردهنَّ الشرطة وتلقي القبض عليهن وتودعهن السجن حيث يتعرضنَّ إلى أقسى العقوبات.. مشيتُ نحوها وحييتها وجلستُ قربها فردتِ التحية بنظرةٍ خائبة وحاولتِ الانصراف فاستوقفتها وطمأنتها بالقول إنني لست مخبراً سرياً وانما أنا مثلها شخص عادي.. كانت ثلاثينية، نحيفة، حول عينيها هالات داكنة، وعلى  عنقها آثار جروح.. دعوتها إلى وجبة طعام فلم ترد.. استأذنتها بالانصراف ونهضتُ فنهضتْ وتبعتني.. توقفتُ ووضعتُ يدي بيدها ومضينا.. تناولنا وجبة خفيفة في مطعمٍ صغيرٍ منزوٍ في جادةٍ شبه خالية ودعوتها للمبيت في شقتي كي لا تقع في قبضة رجال الشرطة إن أمضتْ ليلتها تحت الجسر، فوافقتْ بعد لحظة تردد..
جلسنا صامتين أمام التلفاز، وعندما حان وقت النوم أطفأتُ  المصباح ونمنا متباعدين على طرفيّ السرير وأنا افكر بالجرذان التي ستخرج بعد قليل، لكن الجرذان لم تخرج في تلك الليلة.. لم اسمع أصواتها ووقع خطاها الخافت وهي تجري وتتعارك، أو وهي تتقافز من مكان إلى مكان.. انسللتُ من السرير وأشعلتُ المصباح ولم أرَ جرذاً واحداً يفرُّ هارباً.. أطفأتُ المصباح وعدتُ إلى السرير.. عمَّ السكون العميق المكان ولم أسمع سوى أنفاس ضيفتي النحيلة تتردد بشكلٍ خافت، وبدلاً من شمّي لتلك الرائحة النتنة، شممتُ هواءً عذباً منعشاً كأنه هواءُ فجرٍ نديٍ قادم من قلب الربيع..
استيقظتُ وكانت الشمس عالية.. استغربتُ كيف لم اسمع صوت المنبه الصاخب الذي يرجُّ المدينة كالزلزال فجراً ويصبح من المستحيل أن يواصل أحدٌ غفوته؟.. كيف لم يوقظني وساعة صحوي مبرمجة على إيقاعاته العنيفة؟..
أيقظتُ ضيفتي بلمسةٍ خفيفةٍ على ذراعها ففتحتْ عينيها ببطء.. تمطتْ قليلاً وشبح ابتسامة لطيفة يلوح على محياها، وطلبتْ مني ايصالها إلى الجسر..
في طريقنا إلى الجسر، مررنا بتمثال الراعي الكبير.. نظرنا إليه وتراجعنا إلى الوراء: غابتْ ابتسامته العريضة وحلّت بدلاً عنها تكشيرة كأنها تكشيرة ذئب غاضب.. تجعدتْ صفحة وجهه الصقيل.. تعامدتْ ذراعاه على صدره بعدما كانتا مفتوحتين.. ومن جيبيَّ معطفه أطلّت رؤوس الجرذان.. وضعنا تمثال الراعي الكبير وراء ظهرينا ومضيناً جرياُ باتجاه الجسر والنهر السريع الجريان دون أن نؤدي التحية.