شوبنهاور.. فلسفة الأمل داخل الألم

ثقافة 2024/03/06
...

 د. حيدر عبد السادة جودة

كثيراً ما أخذ الباحثون والمؤرخون لتاريخ الفلسفة، على أن الفلسفة التي جاء بها آرثر شوبنهاور، إنما هي تشاؤمية غير صالحة لفن العيش تحت سقف السعادة والأمل، وقد جاء ذلك الحكم نتيجة ما أعلنه شوبنهاور في حديثه عن الإرادة، فهي الشيء في ذاته، وهي أساس كل الوجود، فهي التي تعطي الفرد وجوده، وتكشف  له عن دلالته وتجعله أيضاً يطلع على القوة الداخلية التي يتألف منها وجوده وافعاله وحركته.

وهي العنصر الوحيد الدائم الذي لا يتغير في العقل، عن طريق استمرار الغرض تعطي الوحدة للشعور وتجمع بين جميع آرائه وأفكاره، وتؤلف بينها في توافق مستمر، فهي النقطة العضوية في الفكر.
ودائماً ما ارتبط مفهوم التشاؤم في فكرة شوبنهاور عن الإرادة، فالإرادة تحمل بذور التشاؤم، لأنها في الحقيقة أصل الشر في العالم. فالصيرورة الأبدية والصراع الذي لا ينتهي، والرغبة التي لا تهدأ، هي صفات تميز الطبيعة الباطنية للإرادة، وهي بالتالي مصدر الألم والمعاناة في العالم. فإذا كان العالم إرادة، وكانت الإرادة هي الحاجة، فلابد أن يكون عالم عناء وآلام. وإشباع هذه الحاجة أكبر دائماً مما تصل اليه، إذ أنه بعد اشباع كل رغبة تبقى عشر رغبات لم تشبع، والرغبة لا تنتهي، والاشباع محدود.. وغالباً ما يؤدي اشباع الرغبة إلى الشقاء لا السعادة، لأن مطالبها دائماً ما تتصارع في عنف مع المصالح الشخصية لذلك الذي اشبعت رغبته حتى تودي بها.
وكلُّ من أخذ هذه التصورات الحرفية، وانتهى إلى أن فلسفة شوبنهاور، هي من أكثر الفلسفات الفاقدة للأمل، إنما جاءت عن طريق كتابه الشهير «العالم إرادة وتمثلاً»، ففيه أعلن شوبنهاور، قوله بإن الإرادة هي مصدر الشرور... إلى أن ظهر كتاب «تهمة اليأس» لشوبنهاور، يحاول فيه أن يطرح فكرة الأمل من داخل الألم، ويخرج عن طريق التشاؤم نحو فكرة التفاؤل، ونجده يقول فيه: «سيُقال لي إنّ فلسفتي عديمة الرحمة، لأني أقول الحقيقة، والناس يفضّلون أن يحصلوا على التطمينات مفادها إنّ كل ما خلقه الرب جيد.. اذهبوا إلى القساوسةِ إذاً واتركوا الفلاسفة في سلام». إذن فإن أصل التشاؤم في فلسفة شوبنهاور، ينبع من كونها فلسفة صارمة في قول الحقيقة، الحقيقة التي لا تبالي في مشاعر الخلق على حساب فكرهم.
والحقيقة الفلسفية عند شوبنهاور، هي الألم والمعاناة، لكنها ليست جامدة وراكدة على هذا المعنى، فهناك إمكانية كبيرة في تجاوزها نحو مفاهيم النجاح والسعادة وغيرها، لكن الفرق يتمثل في إن الفكرة المؤدية إلى السعادة يجب أن تمرّ في طريق الألم والمعاناة، وإلا لما كُتب لها أن تكون فكرة صادقة في الأساس.
إن شوبنهاور لا يريد الانتهاء إلى الألم، بل يشدّدُ على ضرورة أن نمرَّ به؛ فهو ضروري في سبيل تحصيل السعادة، لأن الفكرة التي لا تمر بحجم المعاناة إنما هي فكرة خاوية وفارغة، فالأصل يكمن في كيفية تجاوز الألم والمعاناة ومصادر القلق، للوصول إلى الرغبة المنشودة. فيقول في «تهمة اليأس»: إن لم تكن المعاناة هي الهدف المباشر والأساسي للحياة، فإن وجودنا يخفق في تحقيق هدفه.
وكما هو معتاد في تاريخ الفلسفة، من أثر بارز للفيلسوف اليوناني «هيرقليطس» وقولته الشهيرة «إنك لا تنزل في مثل النهر مرتين»، والتي جاء من خلالها بفكرة الصيرورة، هكذا يذهب شوبنهاور، حيث يعتقد أنَّ كامل الأساس الذي يقوم عليه وجودنا موجودٌ في الحاضر، ذلك الحاضر الذي ما ينفكُّ أن يهرب، ولذلك فمن صلبِ طبيعة وجودنا أنها تأخذ شكل الحركة المستمرة، ولا تسمح بأي إمكانية للحصول على الاستراحة التي نسعى دوماً من أجلها، فنحن مثل رجلٍ يركض نزولاً، لا يستطيع أن يبقى على رجليه إلا إذا تابع الركض، وسوف يقع بلا شك إذا توقف.. إنَّ اللااستقرار صفةُ الوجود.
ومن هنا نجد أن التشاؤم عند شوبنهاور ليس مجرد وصف، وإنما هو فكرة، وهذه الفكرة مُنتجة ومثمرة ما دامت ترشدنا إلى السعي، السعي نحو الألم بغية الأمل، والحركة في دائرة المعاناة لقصد التحرر والنجاة، هكذا أجاد سبك فلسفته التي اتخذت من الإرادةِ موضوعاً لها، باعتبارها أصل الوجود ومصدر الشرور في العالم. وكم كنت أتمنى أن يكون عنوان الكتاب «دفاعاً عن تهمة اليأس»، وليس تهمة اليأس فحسب، لأن هذه التهمة «اليأس» من جواهر الفلسفات التي قيلت في العصر الحديث، والتي تسعى إلى إعادة الإنسان لجحيم المعاناة بشرط الإبداع... لذلك قال شوبنهاور لمن يتحاشون الحديث عن العذاب والألم: اذهبوا إلى القساوسة إن لم تفهموا الجحيم والألم، واتركوا الفلاسفة يعيشوا بسلام.