ماذا تبقّى من محمود البريكان؟
محمد صابر عبيد
الشاعر محمود البريكان ينتمي بحسب التحقيب الجيليّ المدرسيّ إلى جيل وصف لدى بعضهم بالجيل الضائع، وربما سماه آخرون (جيل الخمسينيّات) تمييزاً لشعراء هذا الجيل عن جيل الرواد المعروف المحصور بأربعة شعراء رواد جرى الاتفاق المطلق بشأن ريادتهم، وهم بدر شاكر السيّاب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري، وثمة من يضيف إليهم خامساً هو الشاعر شاذل طاقة، إذ تكرّست أسماؤهم على هذا النحو وانطبعوا بصفة (جيل الرواد) واكتسبوا أهميّة تاريخيّة وفنيّة عالية عراقيّاً وعربيّاً وحتى عالميّاً، وعلى الرغم من محاولات البعض التأثير على هذه الخصوصيّة هنا أو هناك على نحو أو آخر إلا أن (جيل الروّاد) ظلّ علامة بارزة في تاريخ الشعرية العربيّة الحديثة.
ضمّ الجيل الضائع إلى جانب الشاعر محمود البريكان الشعراء سعدي يوسف ويوسف الصائغ ورشدي العامل، وظلّ هؤلاء الشعراء يغزلون نماذجهم الشعريّة بين فرسان جيل الروّاد اللامع المهيمن من جهة، وجيل الستينيّات بفرسانه الجدّد وهم يشقّون طريقهم بقوّة وحداثة بحثاً عن ريادة جديدة من جهة أخرى، ولاسيّما أنّ صراعاً خفيّاً، وظاهراً أحياناً، بين الجيلَين، جيل الروّاد وجيل الستينيّات، كان يعمل على تموين الفضاء الشعريّ العراقيّ بمزيد من الحراك والديمومة والتطوّر والتحديث على مستويات عديدة، دفع شعراء الجيل الضائع نحو الوقوف على التلّ وعدم التدخّل في هذا التنازع الشعريّ حول زعامة الحداثة الشعريّة في هُويّتها الجديدة، ممّا أتاح لهم فرصة تاريخيّة للتميّز الهادئ بعيداً عن صراعات التجييل وحُمّى المنافسة القاسية أحياناً، وانشغلوا بتجاربهم الشعريّة بأكبر قدرٍ من الرحابة والوضوح بعيداً عن الضوضاء والضجيج والادعاء والافتعال، من أجل تطوير غزْلِهم الشعريّ النوعيّ سبيلاً نحو التميّز والتفرّد.
انفرد البريكان بكينونة شعريّة خاصّة كما هي حال زملائه سعدي يوسف ويوسف الصائغ ورشدي العامل، إذ كان لكلّ شاعر منهم نكهة شعريّة ومزاج شعريّ ورؤية شعريّة تتمتّع بمستوى عالٍ من الخصوصيّة والتميّز، رافقه وعي ومعرفة وحيويّة شعريّة بالغة الفرادة أسهم على نحو فعّال في تمتين أواصر التجربة الشعريّة وتقوية عناصر تكوينها وإعدادها، كان فيها البريكان يحيط ذاته وتجربته بنوع من الكتمان والغموض والبعد عن الحراك الثقافيّ والأدبيّ العام ما وسعه ذلك، ممّا أضفى على شخصيّته وتجربته الشعريّة كاريزما خاصّة، راح الكثير من النقّاد والمشتغلين في حقل الشأن الشعريّ والأدبيّ العراقيّ يغذّون هذه الكاريزما لمقاصدَ وأهدافٍ ونيّاتٍ مختلفةٍ، فابتعدت شخصيّة البريكان وتجربته عن الحراك الأدبيّ الموّار بالشدّ والجذب والأخذ والردّ والصراع والجدل والسجال في مناحٍ كثيرة، وصارت الشخصيّة والتجربة معاً طريفة إبداعيّة ارتفعت فوق النصوص، وصار النظر إليها أحياناً مرهوناً بسطوة الشائعة وتأثيراتها السطحيّة بمعزل عن الفحص الدقيق والتقويم النقديّ السليم للنصوص الشعريّة، ونحسب أنّ المناخ الثقافيّ العراقيّ (الوجدانيّ والنفسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ) عموماً مولع بصناعة الرموز والأبطال التي تملأ فراغاً مُعيّناً في هذا العقل، فسرعان ما يروّج للشائعة وينافح عنها كي يحقّق لها أعلى قوّةِ تداولٍ تحوّلها إلى ما يشبه الحقيقة واليقين، ولا يقبل بإزاء ذلك أيّة محاولة للفحص والتدقيق والتمحيص والنقد طالما أنّ شخصيّة الرمز وتجربة البطل دخلت في فضاء الأسطرة العراقيّة فصارت بمنأى عن النقد.
وربّما استجاب البريكان على نحو ما لسحر هذه اللعبة وإغراءاتها وإغواءاتها وقوّة جذبها ونورها اللامع المبهِج المنتشر على مساحة مهمّة من الشعريّة العراقيّة، ومضى في سبيل إدامة زخمها وتطويرها بمضاعفة هذا الابتعاد وحراسته بمزيد من الصمت والعزل والابتعاد، وتسوير شخصه وتجربته داخل قلعة حصينة وبعيدة ومشحونة بضوء شفيف موحٍ، بما يكوّن نوعاً من الأسطرة تغري الآخر بولوجها وتستدعيه وتدفعه نحو التعرّف إلى أسرارها ومكنوناتها وخباياها كلّما وجد إلى ذلك سبيلاً.
شعر البريكان على صعيد الكمّ الشعريّ الكتابيّ محدود نسبيّاً قياساً بالزمن الذي عاشه شاعراً معروفاً ومثيراً في الشعريّة العراقيّة منذ مطلع خمسينيّات القرن الماضي حتى رحيله الدراميّ المؤسف عام 2002، وهو من مواليد 1931 أي قريباً من ولادات جيل الروّاد وأكبر من زملائه في الجيل الضائع، فسعدي يوسف من مواليد 1934، ورشدي العامل من مواليد 1934 أيضاً، ويوسف الصائغ من مواليد 1936، إذ كان نتاج سعدي يوسف الشعريّ كبيراً جداً وما زال، ونتاج الشاعرين يوسف الصائغ ورشدي العامل أكثر كثيراً من شعر البريكان، وهذه المحدوديّة هي جزء من فعاليّة الأسطرة التي اشتغل عليها دارسون ونقّاد سعوا ما وسعهم ذلك نحو خلق أسطورة شعريّة عراقيّة على هذا النحو اسمها (محمود البريكان)، إذ تمّ توجيه النظر النقديّ حول محدوديّة إنتاجه الشعريّ بوصفها سمة مميّزة من سمات تميّزه وخطورة شعره، لكنّ هذا التوجيه يهتزّ ولا يتوفّر على فعّاليّة الديمومة حين تخضع مراجعةُ شعره القليل لقراءة لا تؤخذ بالشائعة الثقافيّة أو الأدبيّة مهما بلغت في تأثيرها وهيمنتها، وتذهب بعيداً في ممارستها النقديّة نحو البحث في شعريّة النصوص وأساليب بنائها وخصوصيّة صوغها التشكيليّ.
وحظي هذا الشعر بقراءات ودراسات أقلّ كثيراً من اللغط الثقافيّ والإعلاميّ المُثار حول شخصه وتجربته الشعريّة، ذلك أنّ الكثير ممّن كانوا يروّجون للظاهرة البريكانيّة الشعريّة يعتمدون على التغذية الإعلاميّة الخالية من قراءة نقديّة فاحصة لشعره توازي هذه المرافعات المرتجلة عن شخصيّته وشعره، ولا شكّ في أنّ مصير الدفاع غير القائم على حجاج بحثيّ ودراسيّ ثابت وأصيل يموت بموت المناسبة، ولا يمكنه العيش والديمومة في ظلّ منافسة شعريّة عميقة لا يمكن أن تتأثّر بالشائعات من دون توكيد فنيّ وجماليّ عالي المستوى يصلح للاستمرار والبقاء والتأثير أطول زمن ممكن.
شعر البريكان عندي قصيدة واحدة لم يَكتبْ غيرها، ينوّع عليها ويعيد إنتاجها بحبكة شعريّة ذكيّة وعارفة ومتموّجة، إذ لو جمعنا كلّ ما تركه من شعر ونضدّناه بطريقة مُعيّنة غُفلاً من العناوين لوجدنا أنّه يمثّل قصيدة واحدة تمتدّ على مساحات عدد من القصائد، ذات تجربة واحدة، ورؤية واحدة، وحساسيّة شعريّة واحدة، ومزاج شعريّ واحد، لغةّ وصورةً وإيقاعاً وفكراً وفضاءً، من دون أن نعدم بعض الاشتغالات النوعيّة ذات الطرافة الشعريّة الكثيفة الخاصّة هنا أو هناك، ولاسيّما في بناء صور شعريّة فريدة يكاد يتميّز بها على نحو خاص، غير أنّ عموم تجربة البريكان على المستوى الفنيّ والجماليّ الحداثيّ ليس فيها تلك الإثارة التي توازي الإثارة الإعلامية الثقافيّة التي أُحيطت بها تجربته، وإذا ما قارنّاه على هذا الصعيد بزملاء جيله فتجربته دون تجربة سعدي يوسف ويوسف الصائغ، ولا تتفوّق على تجربة رشدي العامل أيضاً إلّا في الالتماعات الصوريّة الفريدة هنا وهناك في بعضٍ من قصائده المركّزة، وأكاد أقول إنّ الهالة التي أثيرت حوله ربّما ظلمته حين منحته من الأهميّة أكثر ممّا تستحق تجربته، فقد تكون أوهمته وقادته على نحو مضادّ إلى الشعور بالاكتفاء، ودفعته إلى إغلاق نوافذه بإحكام في وجه الهواء النقيّ القادم من خارج قلعته الحصينة، والاستمتاع بهذه الكاريزما المثيرة التي غذّتها العزلة والغموض والبُعد، والاكتفاء بها بوصفها عالماً جاذباً لمحبّيه ومعجبيه وحرّاس أسطورته.