مقدمات القصص والروايات

ثقافة 2024/03/10
...

 علي فائز

ثمة قصص وروايات كان اطلاعنا عليها، بسبب مقدمة عظيمة، جعلتنا نواصل القراءة بشغف يزداد منسوبه صفحة بعد أخرى، أول كلمة، أول جملة، أول سطر، تكون بمثابة السنارة التي تصطاد القارئ وتنزعه من نفسه، مسافرة به إلى عوالم القصة أو الرواية. تخيل أن تستيقظ من النوم، لتجد نفسك وقد تحولت إلى حشرة! هذه واحدة من أفضل مقدمات القصص التي كتبها كافكا:»عندما استيقظ غريغور سامسا من نومه ذات صباح عقب أحلام مضطربة، وجد نفسه قد تحول في سريره إلى حشرة عملاقة».

هذه المقدمة اعتبرها الروائي الكولومبي «غابرييل غارسيا ماركيز» أعظم افتتاحية يمكن تصورها لرواية؛ وبفضلها قرر أن يصبح كاتباً روائياً.
ومن الطرافة أن ماركيز قد طلب من صاحبه أن يعيره كتابًا يساعده على النوم، لكن ما حصل هو العكس تمامًا، إذ لم يعد إلى النوم بوداعة مثل المرات السابقة، يكتب ماركيز عن هذه الحادثة: حين انتهيت من قراءة «المسخ» بقيت لديّ لهفة لا تقاوم إلى العيش في ذلك الفردوس الغريب. وفي اليوم التالي فاجأني دومنغو مانغويل بيغا بالآلة الكاتبة النقالة التي أعارني إياها، لكي أحاول شيئًا يشبه موظف «كافكا» المسكين المتحوّل إلى صرصار ضخم. لم أذهب في الأيام التالية إلى الجامعة خوفًا من كسرِ السَّحر، وواصلتُ تعرّق قطراتٍ من الحسد. «لذلك كانت هذه الحادثة مدعاة لأن يولي ماركيز اهتمامًا كبيرًا في كتابة مقدمات لروايته، لذلك كانت مقدمة رواية قصة موت معلن من افضل المقدمات الروائية «في اليوم الذي ذهبوا إليه ليقتلوه، استيقظ سانتياغو نصار في الخامسة والنصف صباحاً لانتظار موكب الأسقف، وكان قد حلم بالأشجار والطيور، غير أنّه راوده شعورٌ بعد ذلك، أنّ فضلات الطيور سوف تغطي جثته تماماً».
ومن نماذج الافتتاحيات الرائعة هي قصة «حلم رجل مضحك» لدوستويفسكي: «أنا رجلٌ مضحك، وهم ينعتونني الآن بالمجنون، وقد كان من شأن هذا النعت أن يكون رفعًا من قدري لو أنّهم تراجعوا عن اعتباري مضحكًا». كذلك رواية طبل الصفيح للروائي الألماني «غونتر غراس» يكتب في مقدمة روايته: أعترف بأنني نزيل مستشفى للعناية والرعاية العقلية، حيث يراقبني معيني، ويكاد أن لا يصرف النظر عنّي، وثمّة عين سحرية في الباب، بيد أن عينيّ معيني ذات لون بني وعاجزة عن اختراقي أنا الأزرق العينين.
ربما يتفق معي الجميع على أن سبب قراتهم  لرواية الغريب لألبير كامو كانت بسبب المقدمة  التي طُبعت  على الغلاف الخلفي للرواية، وعلى ما أذكر فأن أصحاب المكتبات يعرضون الرواية من خلال ظهرها في رفوف المكتبات؛ لأنها تكون سببًا كافيًا للشراء. تقول افتتاحية الرواية: «اليوم ماتت أمّي. أو لعلها ماتت أمس. لستُ أدري».
من يقرأ الأدب الكلاسيكي لا يجد هكذا مقدمات فالكتاب هناك اعتمدوا على الوصف والاسهاب فيه واستخدام العبارات الموسيقية نجد ذلك في قصة «لمنن أشكو كآبتي؟!» لأنطون تشيخوف: غسق المساء.. ندف الثلج الكبيرة الرطبة تدور بكسل حول مصابيح الشارع التي أضيئت لتوها، وتترسب طبقة رقيقة لينة على أسطح المنازل وظهور الخيل، وعلى الأكتاف والقبعات.. والحَوذي «ايونا بوتابوف» أبيض تماماً كالشبح.. انحنى متقوسا، بقدر ما يستطيع الجسد الحي أن يتقوس. يرى بعض النقاد أن هذا الأسلوب كان مناسبًا لعصره إذ كان القارئ يعاني من الفراغ ويمتلك وقتًا فائضًا، لا تشغله غير هذه التفاصيل التي ترسم له عالمًا يبعده عن ثقل مرور عقارب الساعة.
في العصر الحديث صار الحدث هو المهيمن على افتتاحية القصة أو الرواية، أننا أمام قارئ مشغول على الدوام ويمتلك خيارات عديدة فهو صعب الارضاء ولا يشده شيء غير مقدمات تثير فزعه، وتجبره على مواصلة القراءة.
من منا يجرئ ان يقرأ مقدمة رواية «ظل الريح» لكارلوس زافون التي تقول: «لن أنسى أبدًا ذلك الصباح الذي اقتادني فيه والدي إلى مقبرة الكتب المنسية». ويغلقها دون أن يواصل أو يحجز لها موعدًا للقراءة، كذلك الحال مع رواية «مورفي» لصمويل بيكت وهي من اكثر المقدمات الروائية غموضًا وعبثية: أشرقت الشمس التي ليس أمامها من بديل، على لا شيء جديد.
على الصعيد العربي هناك روايات نالت شهرة واسعة واصبحت من بين الكتب الأكثر قراءة وطبعات بسبب مقدمات مثيرة أخذت الحصة الأكبر في ذاكرة القراء، منها مقدمة  الروائي عبد الرحمن منيف في قصة حبُ مجوسية: «لا أطلب منكم الرحمة، ولا أريد عطفكم. إذا كنتم محسنين فامنحوا صدقاتكم للمتسولين. أنا لست متسولًا ولا مسكينًا، كما لا أعتبر نفسي لصًا أو قاطع طريق ومع ذلك فإن لي مشكلة. ومشكلتي دون كلمات كبيرة، أن الألم يعتصر قلبي».
وعلى الصعيد العراقي فان مقدمات روايات الدكتور محسن الرملي كانت  من اكثر المقدمات صدمة وادهاشًا للقارئ منذ أول سطر كما في رواية حدائق الرئيس التي كتب في مقدمتها الرملي: «في بلد لا موز فيه، استيقظت القرية على تسعة صناديق موز، في كل واحد منها رأس مقطوع لأحد أبنائها، ومع كل رأس بطاقته الشخصية التي تدل عليه؛ لأنها الوجوه تشوهت تماما بفعل تعذيب سابق لقطعها أو سبب تمثيل ما بعد الذبح» وفي رواية أبناء واحذية كانت مقدمة الرملي بهذا الشكل: «انتقامًا مت موت طفلتي في العراق؛ أنجبتُ سبعة وعشرين طفلًا في اسبانيا وكولومبيا».
وأخيرا أذكر مقدمة من الأعمال القصصية للروائي حسن بلاسم «جريدة عسكرية» يقول بلاسم في المقدمة: «سنذهب إلى المقبرة، إلى مشرحة الموتى، نستأذن حراس الماضي. سنخرج الميت عاريًا إلى الحديقة العامة. نجلسه على المصطبة، تحت شمس برتقالية ناضجة. سنحاول تثبيت رأسه. حشرة أو ذبابة تطّن حوله. مع أن الذباب يطنُّ على الأحياء والأموات بقسمة عادلة. سنتوسل إليه أن يعيد علينا الحكاية. لا حاجة لرفسه تحت خصيته كي يروي بصدق ونزاهة. فالأموات نزيهون في العادة، حتى الأوغاد منهم».