علي لفتة سعيد
كل فعل إبداعي واحدة من أهدافه أنه موجّه لخلق حالةٍ من المباهلة ما بين الفعل الفردي للمنتج وبين البعد الإنساني للعمل الإبداعي. ولأن الفرد المنتج للإبداع لا يمكن أن يصنع مواده الأوليّة الداخلة في الإنتاج إلا من خلال المجتمع، حتى لو كانت مخيّلته متقدة، فإن هذه الفعالية لا تتجه إلا لكونها تمتلك بعداً إنسانيا حتى لو كانت تأخذ الاتجاه الآخر في المعالجة غير المتوقعة، وهي واحدة من مهام الإبداع الأدبي. بمعنى أن الإبداع لا يمكن قبوله إلا إذا كان يمتلك هذه الخاصية، ليس بالمعنى الدلالي لكلمة الانسانية، وأنه يخلو من الحافز والدهشة والجاذبية وكسر أفق التوقع، بل من خلال تفعيل الرؤى داخل العمل الإبداعي.
ولهذا فإن الرواية العربية كانت تسير وفق هذا المنهج وتسير وفق هذا الطريق، لكنها أيّ الرواية العربية اختلفت في العقدين الأخيرين في هذا البعد عمّا كانت عليه طوال سنواتها منذ القرن العشرين ورواية “زينب” لمحمد حسين هيكل.
حيث كانت الرواية تأخذ البعد الإنساني المباشر، على أنه الانتصار للخير والضوء وصارت بعض الكلمات على أنها مفهومٌ قار لا يمكن تجاوزه، وأصبح النقد يعتمد على وجودها باعتبارها الدليل على تفكيك العمل الروائي.. من مثل المطر باعتباره الخير، والظلام باعتباره الخوف أو الشر، والضوء باعتباره البصر، والمحبة والورد باعتبارهما الجمال والحب.. لكنها مع تقدم مفهوم الرواية التي تحوّلت من كونها حكاية سردية فكرية الى كونها فكرة سردية بحاجةٍ الى حكاية.. بمعنى إن الرواية وهي تعالج البعد الإنساني لم تعد مجرّد كتابةٍ تغوص في هذا الجانب، من خلال البحث عن حكاية تركّب لها فكرة، بل هي فكرة تبحث عن حكاية، لأن الواقع الراهن اختلف جذريًا عمّا كان، سواء في عملية الإنتاج السردي أو التلقّي ايضا، فالمتلقّي الآن لم تعد تغريه الحكاية الخالية من فكرة.
إن مفهوم الإنتاج الروائي وخاصّة ما بعد المتغيّرات العربية التي أطلق عليها الربيع العربي، أصبح النصّ يعالج هذا البعد من زوايا عديدةٍ، ليس انتصارًا للإنسان وأن تنتهي الرواية بالحب والحل الأمثل والرومانسي إذا جاز القول، بل هو الغوص في هموم الإنسان ذاته حتى لو كانت بطريقةٍ سلبيةٍ، لأن المنتج يريد تفكيك هذا الواقع من خلال فكرته، حتى لو كانت الحكاية تتعلّق بالجانب الإنساني.
ولهذا فإن الكتابة الحالية هي ردّة فعلٍ غاضبةٌ على الواقع.. لأن المنتج وجد نفسه واقعًا في فعلٍ قوي أكبر من أن يستوعبه الواقع الاجتماعي، فلجأ الى السرد لينتج ردّة فعله، ليواكب أو يردّ أو حتى يستدرك الواقع الذي يريده، ولو بتهشيم العلائق الموثّقة والمقيّدة والعالقة في ذهن المتلقّي. لأن المتغيرات قوية سيكون المنتج واقعًا في خضم التناقضات المجتمعية، التي سببها المتغيّر السياسي والديني والمذهبي وحتى القومي، بل وصل المتغيّر الى الواقعة الطائفية المذهبية والطائفية المكانية، حيث كلّ يدّعي أنه يقع في المكان الأفضل والأنسب، والأمكنة الأخرى مجرّد توابع، وهو ما ينعكس على الوقائع الأخرى.
بمعنى أن المنتج فردٌ في المجتمع وهو الذي يتحسّس ويستنطق ويبلور ويتخيّل ويخلق الواقع الموازي المختفي خلف المرآة، أو أنه نزل الى العالم السفلي ليستخرج ما لا يراه الآخر المتلقّي بحثّا عن فينوسه الجمالي، ولو كان بردّة فعلٍ غاضبة وهو ما أسميته بالأدب الغاضب في كتابي النقدي (الأدب الغاضب وتحوّلات النص – الرواية العربية ما بعد المتغيّرات) مناقشًا تطوّرات الرواية العربية التي انتقلت من كونها حكاية إلى صناعة فكرة، أو مجموعة أفكار. إن الرواية العربية على وفق ما ذهبت إليه لم تتخلّ عن البعد الإنساني، ولكن ليس بطريقة الكتابة الأرسطية أو حتى الكتابة المحفوظية “نسبة الى نجيب محفوظ” التي تعد هي الرواية الاكمل حكائيا، ولكن بطريقة الكتابة عن الألم الإنساني وما خلّفته المتغيّرات وتحوّل النصّ من كونه نصاً خائفاً وراجفاً في زمن الأنظمة، التي سبقت المتغيّرات إلى نصّ غاضبٍ على كل شيء، كونه أيّ المنتج يحتاج الى المقابلة مع الفعل لكي تكون ردّة فعله قابلة للنطق والصراخ والاحتجاج والتأشير أيضا، من أن المنتج متفاعلٌ مع قضاياه المختلفة.
إن البعد الإنساني هو الرسالة الاسمى للإبداع، لذا فالرواية العربية لا تخلو من هذا البعد من كونه ركيزة أساسية من مرتكزات وركائز الفعل السردي، سواء من خلال الفكرة الكليّة أو الحكاية المستلّة من الواقع، وإن كانت متخيّلة، لكن الطريق الى هذا البعد اختلف من كونه يتحدّث بطريقةٍ مباشرةٍ، انتصارًا للسعادة التي يريدها المتلقّي وتتطلّبها شروط النص السابقة، إلى نصٍّ مشبّعٍ بالإشارات السلبيّة، من أجل الانتباه الى البعد الإنساني المخنوق والغاضب. بل تحوّل السارد الى مرآة يرى فيها المتلقّي نفسه وما يريد قوله بالإنابة، بل ربما يتحوّل المنتج الى كبش فداء في (غضبه وغضبته) التي يصفّق لها المتلقّي ويعدّ المنتج مفتاحًا لصوتٍ قادمٍ له، لكنه أيّ المتلقّي ربما يبقى في دائرة الخوف السابقة التي تعوّد عليها، كونه يعيش داخل محيطها، أو أنه يتلقّى هذا النصّ ايضا وغي داخله يتربّص الخوف بمعنى أن الهواجس والتوجّس، وحتى الرعب من الواقع يبقى مرافقًا له.
ولهذا يمكن القول كخلاصةٍ إن الرواية العربية الحديثة لم تعد معنيةً برسم معالم الجوانب الإنسانية الإيجابية فحسب، والبحث عن حكاية ملهمة للشباب، فهي أيّ الرواية خاضعة للمتغّيرات التي حصلت حتى في الجوانب النفسية التي جاءت بسبب القوى السياسية والدينية وتراجع الفهم العام حتى للوطنية في ظلّ الظروف القاهرة التي يمرّ بها الإنسان العربي بهدف التخلّص من مرحلة القلق الآني، بعد أن تخلّص من مرحلة الخوف السابقة، لعلّه يحصل على مرحلة الثبات على مفهوم الإنسان في الحياة التي تغيّرت في العالم أجمع، سواء بسبب الحروب والاقتصاد أو التقنيات الحديثة، التي أثقلت كاهل الإنسان العربي الذي يرى كلّ شيء أمامه متعلّق بالإنسان، في حين هو يعيش مرحلة الخوف من إنسانيته نفسه، وهذا لا يعني مغادرة الرواية البعد الإنساني، بل أنه غيّر خرائط التناول من القناع والخوف، الى التفكيك والإشارة المباشرة بطريقةٍ غاضبة، لعلّه يصل الى مرحلة الهدوء الاجتماعي.