{الخروج إلى الداخل}.. المدينة وقد أصبحت مصحَّاً عقليَّاً

ثقافة 2024/03/11
...

 علي العقباني

 بحقيبة يد حمراء ووجه شاحب يخرج الشاب آرام (يزن خليل) من ذلك المكان ذي الممر الطويل الطويل بخطى متثاقلة، وفي الخارج نكتشف أنه مصحٌ للأمراض العقلية، الشاب إذن كان هنا لأن أحداً ما أفقده عقله وجننه، أو أن هناك حدثاً ما جعله يدخل هذا المكان، وربما فقد عزيزاً، وربما تركته حبيبته، أو ربما فقد عقله أمام جنون ما يحدث في الواقع..

كل تلك احتمالات ممكنة ومتاحة، قد تعطي الإجابة عنها المشاهد المتتالية من فيلم "الخروج إلى الداخل" سيناريو وإخراج اللوتس مسعود صاحبة العديد من التجارب المسرحية والسينمائية ذات الخصوصية، وبما يُذكر بعناوين قريبة في السينما والمسرح، لكن تلك المشاهد ستكون أشد جنوناً وكارثية في الخارج، لنتساءل أيهما اكثر جنوناً الداخل أم الخارج، فخلال رحلته للوصول إلى منزل العائلة تصادفه مجموعة من الحوادث الصادمة والمفارقة، فثمة شاب   يتشاجر مع مجموعة شبان، ويشبعونه ضرباً وحين يتدخل الخارج لإنقاذه يكتشف أن الشبان يضربونه ببساطة لأنه تحرش بأخت أحدهم، أي سبب تافه لعلقة أدمته، فينظر إليه باستغراب ودهشه، وكذلك عامل القمامة الذي ينظر إليه وهو يأكل على قارعة الطريق وينتظره لينهي وجبته ويأتي هو لاستكمالها، فيتركها له وينصرف، في حين تقترب منه فتاة، وهو جالس في أحد المواقف وتعرض نفسها عليه بمبلغ تتنازل عنه قليلاً ربما يوافق، لكنها تنسحب، ليصادف بعدها شاباً يسرق منه حقيبته ويركض في شوارع المدينة ويركض هو خلفه حتى تدهسه سيارة أجرة، لكنه يترك الحقيقة ويهرب، فيركب الشاب مع سائق التاكسي "حمادة سليم"، الذي سيحدثه عن البلد ويسأله عن مكان خروجه وذهابه، ويجفله أن يقول له أنه خارج من مصح عقلي، وحين يصل أحد شوارع المدينة سنشاهد شاعراً" أدى الدور باقتدار الفنان تيسير إدريس "يلقي الشعر في الشارع وعلى الرصيف في مشهد يذكرنا ببعض صعاليك المدينة وشعرائها، وفي الطرقات نلمح لافتات كبيرة لرجل أعمال سيأخذ البلد إلى العمران وإعادة البناء، وسنفاجأ في منزل العائلة حيث الأخت والأم والشاب يتناولون العشاء، ويدخل الرجل (أمير برازي)، وهنا تكتمل الحلقة فهو سيكون زوج الأخت الذي أسهم في ادخال الشاب إلى المشفى، وهنا تنشأ معركة كلامية تنتهي بما لا نراه، ولكننا سنقرأه في المشهد التالي في الممر الطويل، حيث ذات الراقصة التي عرضت عليه نفسها في بداية الفيلم ترقص في عمق المشهد والكاميرا تتراجع وترينا الحقائب الحمراء بجانب كل باب، في النهاية يقرر آرام الانتحار من فوق جسر، فإذا به يشاهد أناساً بألبسة بيضاء في الأسفل، أنت لست وحدك، فربما هو الجنون الجمعي أو النهاية الجمعية.

فيلم سينمائي رشيق وحيوي يرينا المدينة من حيث لا نرغب أن نراها، ويدعونا للتساؤل عن الداخل والخارج، فجنون الخارج فاضح واضح قاس ومنهك للروح، فها نحن نعيش في مصح كبير نخاف الاعتراف بجنوننا وجنونه، بعبثتيه والفوضى والاختلال النفسي والعاطفي  وجنون ما يحدث فيه على كل المستويات، كل هذا رأيناه من خلال مشاهد حركية متنوعة بين الركض والثبات بين التوسع والاقتراب، في محاولة قراءة الحالات تبعاً لحركة الكاميرا وكادرات التصوير بما أتيح لها من وقت للتصوير وميزانية للعمل، وهو الفيلم الروائي القصير الثاني للوتس بعد فيلمها "أول يوم".  

هنا وفي سردية سينمائية تشي بقدرة مخرجة تمسك تفاصيل فيلمها بحرفية عالية وتغامر في اكتشاف مدينة تعيش في الحد الفاصل بين الواقعي والعبثي بين الواقعي والخيالي، وتأخذنا بلهاث بصري خلف عوالمها وعوالم المدينة، التي تريد أن تربنا إياها في سلسلة لقطات متراكبة تترك اطباعاً قاسياً بالجحيم الذي نعيش أو بقسوة الواقع الذي وصلنا إليه، في قدرة على التعامل مع الممثلين الذين تمكنوا من أعطا الكثير من أدوات التعبير والتعامل مع الشخصيات البسيطة أو الأساسية في الفيلم، وما امتلكه يزن خليل من قدرة على التعبير والنظرة واللغة والاحساس أضفى الكثير على روح الشخصية، وهذا ما شاهدناه حتى عند الأدوار الصغيرة في الفيلم.

الفيلم من إنتاج المؤسسة العامة للسينما، وهو من سيناريو وإخراج لوتس مسعود، ومن تمثيل: يزن خليل وتيسير إدريس وريموندا عبود وحمادة سليم وأمير برازي وأمينة عباس.