علي حمود الحسن
تمتعت كثيرا بمشاهدة فيلم "الزهرة الارجوانية" (2023) للمخرج علي حنون، الذي عرض في المسرح الوطني، مؤخرا، ضمن فعاليات مهرجان بغداد السينمائي الاول، ويحكي قصة سنان (احمد شنيشل)، الشاب السينمائي الذي يهوى جمع الكاميرات الفوتوغرافية، ويعيش مع أمه العمياء (احلام عرب) واخيه غزوان (صادق الوالي)، الذي يعمل حدادا وأفنى عمره في تربية أخيه حتى تخرجه، ونواره (نبأ حسن) زوجة غزوان التي تربطها علاقة محرمة مع سنان، الذي يبدو مغتربا عن أسرته، يستيقظ صباحا، وثمة هاتف يقوده إلى سوق الكاميرات القديمة في الباب الشرقي، يلتقي بصاحب محل لبيع الكاميرات أرمني يدعى فوسكان اوهانسيان، يبيعه كاميرا قديمة يعود تاريخ صنعها إلى العام 1910، يدعي فوسكان أن جده الناجي من مذبحة الأرمن الشهيرة، هو من صنعها.. ويخبره أنها وثقت لهذه المجزرة الرهيبة، وحينما سأله سنان لماذا لم يبعها الجد، أجاب فوسكان: "لأن قضيتنا يومذاك لم تكن معروفة، والكاميرا التي تصور من دون فيلم سترجع لنا حيثما تكون"، يعود سنان إلى بيته مشوشا، ويفتح الكاميرا، فيذهل بأعداد الصور التي توثق لمآسي الإنسان في العصر الحديث (الحربين الكونيتين، حرب فيتنام، البوسنة والهرسك، فلسطين ، داعش)، ويصدم حينما يرى صورا تبث الى أصدقائه وكل شاشات المدينة، تفضح علاقته المحرمة بزوجة أخيه، تصل الصور إلى أخيه غزوان الذي يهم بقتل زوجته، فتهرب منه وتموت انتحارا، فيما يهيم سنان في الشوارع هاربا من عاره، ترمي الأم العمياء الكاميرا في دجلة، يلتقطها فوسكان الذي يدخل في عمق الكادر بمحاذة النهر ويختفي.
يلتجئ حنون الى حيلة سردية لقص حكايته، التي يتداخل فيها الواقع بالحلم، من خلال ما يكتبه السيناريست (هيثم عبد الرزاق)، الذي هو نفسه راوٍ عليم يتدخل في صنع الاحداث ويشارك فيها، من خلال شخصية فوسكان الأرمني صاحب الكاميرا، والمسكون بمحنة الأجداد، حيث قضى أكثر (800) أرمني في المجازر، التي ارتكبتها الحكومة العثمانية وحكومة الاتحاد والترقي .. يسهب فوسكان في شرح الدوافع لارتكاب هذه المجزرة، وهذا المفصل كاد يطيح بالفيلم، لولا احترافية المخرج وفريق عمله، فالحديث عن المذبحة وإقحامها، ومحاولة ربطها بثيمة الفيلم الأساسية، التي هي زنا المحارم، من خلال الحديث عن توحش النفس البشرية وأنانيتها، بدا غير مبرر البتة، فالمعلوم أن دوافع سياسية واقتصادية وجغرافية، هي وراء تهجير الأرمن وقتلهم، ومع ذلك ظل الخط السردي، الذي أسهمت الكاميرا التي تصور بلا فيلم، بتثويره مهيمنا، اذ نكتشف العلاقة المحرمة بين سنان ونوار، والحلم السريالي لأم غزوان العمياء( تذكر بالعرافة العمياء في التراجيديا الاغريقية)، التي تكتشف العلاقة المحرمة، وخوفها من النهاية المفجعة التي جسدها كابوسها الرهيب، حيث التيه في الصحراء، وسماع صوت ابنها سنان على دراجة النارية : "تعالي" فتبتسم، لكنه يدعو نواره زوجة أخيه بدلا منها، ثم مجيء زوجها ابو غزوان (الإعلامي نجم القصاب في ظهور اول)، الذي يدعوها بعد أن هدى من روعها الى تصويره، على الرغم من عماها، لكنها تتفاجأ بصورة زفاف سنان ونواره، وقد تحولا إلى مصاصي دماء، هذه الرسائل المضمرة ، جميعها صبت في حيوية بناء الخط السردي الاول، نكتشف أن كاتب السيناريو الذي اسهم بصوته في روي الأحداث، جعل من نفسه بطلا لحكايته، إذ قدم شخصية فوسكان صاحب الكاميرا المتخيلة، من جانبه اكتشف سنان أنه شخصية ميتة ومدفونة في كنيسة الأرمن. اقترب اسلوب على حنون في قص حكايته من طريقة سرد المخرج الكوري الجنوبي غانغ سونغ سو الفريدة في خلق حيوات لأبطاله.. ويبدو تساؤلا مشروعا: ماذا لو استغنى المخرج عن إقحام المذبحة الأرمنية ومحاولات بائع الكاميرات لتفسير دوافع مرتكبيها، محتفظا بشخصية فوسكان الأرمنية، لاسيما أن الأرمن احترفوا التصوير وبيع مواده، وإلا ما معنى أن يتشارك سنان بارتكابه زنا المحارم بالعار مع مرتكبي الجرائم بحق الانسانية (مذبحة الأرمن، البوسنة والهرسك.. الخ).. الفيلم أخيرا على قدر كبير من الجودة والتميز، وكان فريق العمل موفقا من دون استثناء.