شاكر الغزي
حين استيقظ الأستاذ جواد الفيلسوف، أستاذ مادة الفيزياء في ثانوية الصحابي عمرو بن العاص للذكور، نظر في شاشة هاتفه الجوّال فكانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة AM. فرك عينيه بحركته الدائرية المعتادة، ثم ارتدى نظارته الطبية، دائماً ما يُقسم للناس ــ الذين يجرّبونها من باب الفضول فيزعمون أن لا فرق بين ارتدائها وعدمه ــ أنّ عدستها اليسرى فيها انحراف بقيمة ربع درجة. هل تريدون أن أرتدي نظارة بعين واحدة؟. يقول لهم معترضاً.
يشعر بأنّ أحداً لم يصدّقه؛ فيخرج ورقة مطوية من جيبه، ولا يفتحها:
هذه وصفة طبيب العيون.
يدرك جيداً سطوة الأدلة المادية على البشر. يرى ذلك في ملامحهم المذعنة، رغم أنّ أحداً لم يفكّر بفكّ طيّات الورقة، فربّما كانت صفحة اقتطعها من مجلّة أو جريدة كما يفعل في العادة!.
يشرد خياله كمهرة فتيّة تجوب البراري، يتساءل ما اللقب الذي سيُطلقه عليه الناس لو فاجأَهم وارتدى نظارة بعين واحدة؟ ربّما العبقريّ، أو الغريب! كلاهما يبدوان لقبين مناسبين له، ينتشي قليلاً فينتفخ مثل ضفدع، ولكن سرعان ما تباغته فكرة سوداء، ماذا لو أنهم لقّبوه بالأعور أو أبو عين وعين؟ يمتعض؛ فيحرّك يده أمام وجهه وكأنه يمحو تلك الفكرة أو ينشُّها بعيداً عن رأسه.
سأختار أنا لنفسي لقباً قبل أن يُلصقوا بي ما سيقتل نبوغي.
يقرّر في نفسه. ثمّ يصرخ بصوت مسموع:
الفيلسوف!.
نعم، هذا اللقب سيناسبني جدّاً؛ فالحكمة، أسلوب الحوار، القدرة على الإقناع وسرعة البديهة كلّها من صفاتي الشخصية. يقول بحسم.
مذّاك وهو يرتدي نظّارته الطبية تلك، يتّفق مع الفضوليّين الذين جرّبوها أن عدستها اليمنى مجرّد زجاج عادي، ولكنه يختلف معهم ــ ويصرّ بشدّة ــ أنّ عدستها اليسرى فيها انحرف بقيمة ربع درجة! .
حين استيقظ الأستاذ جواد الفيلسوف، فرك عينيه بحركته الدائرية المعتادة، ثمّ ارتدى نظارته الطبية، وعقد رباط روب نومه الكشمير ــ حياكة ماركة بول سميث كما يُصرّ ــ وكعادته أيضاً، وضع قدميه في خُفّيْ فروٍ لهما شوارب ووجهي قُطيطتين صغيرتين، وافتعل شجاراً قصيراً بين القطتين، عفواً بين قدميه اللتين تنتعلان الخُفّين.
تمغّط قليلاً، وقصد المطبخ لتناول قهوته الصباحية.
في الصالة، فوجئ بأنّ الحوائط كلها مدهونة بلون الكيوي الأخضر!.
وقف مدهوشاً.
فكّر للحظة وهو يحدّق في الطاولة الصغيرة أمام أريكته التي يستلقي عليها حين يشاهد التلفاز. حدّث نفسه:
ليلة البارحة، حين كنت أشاهد مباراة الهوكي، نسيت فاكهة الكيوي في السلّة هناك، على الطاولة، أين اختفت يا ترى؟ ربّما تضخّمت إحداها حتى صارت بحجم بيضة رُخّ، ثمّ تضخّمت أكثر، وتضخّمت حتى انفجرت فتناثر لونها الأخضر على الجدران!.
ولكن...!
يا للهول، كم كنت متعباً حدّ أن استغرقت في النوم ولم أسمع صوت دويّ الانفجار ليلة البارحة.
يفكّر ثانيةً:
اممم، ربّما ما على الجدران ليس دهاناً، بل أشنات أو طحالب أو سراخس نبتت في الشقوق الصغيرة، وانتشرت على سعة الجدار، ثمّ تحجّرت فاستحالت إلى لونٍ معتّق!.
هذا احتمال واردٌ أيضاً! يبدو منطقياً أكثر.
مهمّتي كفيلسوف هي البحث عن إجابات. يقول. يتلفّت يمنةً ويسرةً باحثاً عن إزميلٍ ما ليبدأ تنقيبه الأحفوريّ. تحت طاولة الكيوي، سقطت منه ليلة البارحة السكين التي كان يقشّر بها الفاكهة، فتكاسل أن يلتقطها. كلّ شيء يحدث بقدر، يُغمغم، ثمّ يستدرك بسرعة:
لا... لا، هذه المقولة تشبه آي الكتب المقدسة لا كلام الفلاسفة، ليس عليّ أن اقتبسها ثانيةً.
كثيراً ما كان يصدم أسماع الأساتذة والتلامذة معاً بعبارته:
لم أرَ في بيتنا قرآناً، ولم نستشهد بآياته في أحاديثنا يوماً. لا يذكر من أين اقتبس هذه الثمرة، ربّما التقطها من غصنٍ مطعّمٍ بشجرة غريبة (1) .
تناول السكين ونقَب بها الحائط؛ ليأخذ عينة صغيرة من الكيوي المنفجر أو الطحلب المتحجّر أو أيّاً كان، سيدرس العينة ويعرف ماهيّتها.
ماذا تفعل؟ أنا أدهن الجدران وأنت تخرّبها مثل طفل أحمق!.
صرخ به من خلفه صوت جاد. رجل يرتدي بدلة عمل ملطّخة ببعض الأصباغ، وفي يده فرشاة مدولبة.
أنت صبّاغ؟
وهل أبدو غير ذلك؟
وماذا تفعل في بيتي؟
استأجرتني زوجتك لطلاء الصالة وغرفة المعيشة.
وأين هي زوجتي؟
قالت لي أن أعمل بهدوء كي لا أوقظك، وخرجت منذ الصباح.
وهل أنت الذي دهنت هذه الجدران بلون الكيوي؟
لم تدهنها أنت، صحيح؟
لا، لم أفعل.
بما أنه ليس هنا غيري وغيرك، وأنت لم تفعل ذلك ــ ينظر الصبّاغ إلى بدلته الملطخة ويرفع الفُرشة في يده ــ يبدو أنني من فعل ذلك!.
صفَق الأستاذ جواد الفيلسوف يديه بحسرة؛ فسأله الصبّاغ:
ألا يعجبك اللون؟!
مرّة ثانية لا تشبّهني بالطفل الأحمق، هل تفهم؟ ردّ عليه بغضب مفتعل، وقصد مكتبه بدلاً من المطبخ.
تناول قلمه الباركر ودفتر يومياته الأسمر، وكتب:
إذا استيقظتم في صباح يوم ما، ووجدتم جدران صالة منزلكم مدهونة بلون الكيوي، فهناك أربع احتمالات لتفسير ذلك:
إما أنّ السماء مطرت طوال الليل دهاناً أخضر، عندها يمكنكم الخروج إلى الشرفة لتتأكدوا هل أنّ المطر صبغ المدينة كلها بلون الكيوي أم لا؟.
وإما أنّ ثمرة كيوي كبيرة انفجرت فلطّخت الجدران بمائها الأخضر، وهذا يصحّ في حالِ إذا كنتم تنسون الكيوي في الصالة ولا تحفظونه في ثلّاجة الطعام. ملاحظة: لا تتكاسلوا عن التقاط سكينة تقشير الفاكهة حين تسقط تحت الطاولة.
أو أنّ نباتات خضر نمت وتحجّرت فوق الجدران. إذا كانت جدران صالة منزلكم بلا شقوق فأهملوا هذا الاحتمال.
أما الاحتمال الرابع ــ والذي لا خامس له ــ فأنّ رجلاً قليل الأدب يرتدي بدلة ملطّخة بالأصباغ ويحمل في يده فرشة مدولبة هو من فعل ذلك. احذروا أن تسألوه إن كان هو من صبغ جدران الصالة أم لا.
ربّما قد ينعتكم بالحمقى!.
الهامش:
1 - غصن مطعّم بشجرة غريبة، كتاب سيرة وذكريات للشاعر العراقي المغترب صلاح نيازي، يقول فيه:
لم أرَ ببيتنا بالناصرية يوماً، جريدة أو مجلة أو كتاباً حتى ولا القرآن الذي لم يدخل في أحاديث كبارنا كاستشهاد. مع ذلك كان خوفنا من الله عظيماً، ونخيف به الآخرين. نار الله بيننا أشهر من جنته.