فراس عبد الحسين

صارت بغداد مدينة مزدهرة ومتطورة. تضم أكبر مركز للبحوث العلمية في الشرق الأوسط، يعمل فيه علماء على مشروعات مختلفة، لتوليد الطاقة النووية، العمل في الهندسة الوراثية، تطبيقات الذكاء الاصطناعي على الروبوتات، وغيرها. يمضي سكانها أيامهم بشكل روتيني معتاد، بلا خوف من صراعات أو حروب.  لكن كل شيء تغير في يوم مشؤوم، عندما انفجرت قنبلة نووية في قلب المدينة، وأحدثت دمارًا هائلًا وإشعاعًا خطيرًا، لم ينج من سكانها سوى قلة قليلة، كانوا في مناطق بعيدة عن مركز الانفجار، هؤلاء الناجون اضطروا إلى البحث عن مأوى في أماكن أخرى.    
مصطفى، أحد الناجين من الكارثة، يعيش في مخيم للاجئين في مدينة كربلاء، يحلم بالعودة إلى مدينته الأم. يتذكر دائمًا كيف كانت بغداد جميلة وحيوية، يحب التسكع في شوارعها وساحاتها وأزقتها العتيقة التي تحمل عبق التاريخ، ويشعر بالحزن والحنين إلى زمن ضاع.
كان يتجول ويشتري بعض حاجاته اليومية من السوق، عندما سمع حديث الناس عن رجل غامض، يزعم أنه يستطيع إخفاء الإشعاع وإظهار بغداد كما كانت قبل الانفجار، وبأن لديه جهازاً خاصاً يسمى «الزمكان»، يستخدمه للسفر عبر الزمان والمكان، يستطيع أخذ أي شخص معه إلى المدينة، مقابل مبلغ من المال. شعر مصطفى بالفضول والإثارة، وقرر أن يخوض هذه المغامرة.
جمع بعض المال من بيع بعض مقتنياته، وذهب إلى مقابلة الرجل في مكان سري. وصل إليه رأى الجهاز، صندوقاً به شاشة وأزراراً وأسلاك. أخذ الرجل المال منه، وأشار له بالجلوس بجانبه. قال: إذا أردت أن ترى بغداد كما كانت قبل الانفجار، اضغط على هذا الزر.
جلس بجانب الرجل، وضغط على الزر. فجأة، شعر بدوار شديد، رأى كل شيء يتلاشى من حوله، بعد لحظات توقف الدوار وفتح عينيه، فوجئ بما رأى. كان في بغداد المستقبلية التي تم بناؤها بعد الانفجار. رأى مدينة مذهلة، مليئة بالأبراج العالية والسيارات الطائرة والروبوتات الذكية. الناس فيها يرتدون ملابس غريبة، يستخدمون أجهزة متطورة. تتلألأ بأنوار ملونة، تغمر الروائح جميع حواسه. وجد أن رائحة ماء دجلة لن تتغير على مر العصور، حتى بعد الانفجار النووي.
شعر وكأنه في حلم، سأل مصطفى الرجل: أين نحن؟ فأجابه بابتسامة: نحن في بغداد المستقبل.
- كيف حصل هذا؟
- أنه سر هذا الجهاز، فهو يسافر عبر الزمان والمكان، يمكننا أن نذهب من خلاله إلى أي مكان وزمان تريده. هكذا سوف تصبح بغداد في المستقبل، بعد أن تتعافى وتعود إلى الحياة مرة أخرى.
لم يصدق ما يراه. شعر بالفرح والحيرة في الوقت نفسه. قرر أن يستغل هذه الفرصة الفريدة، ويستكشف المدينة الضائعة. خرج مع الرجل من الجهاز، تجولا في الشوارع، يسأل عن كل ما يراه، ويشرح له الرجل عن التغيرات التي حدثت، بصبر ومعرفة.
وهما واقفان أمام نافورة راقصة عملاقة، تنبعث منها أضواء ملونة. قال له الرجل: هذه ساحة التحرير ونصب الحرية، كان مركزا للاحتجاجات والثورات في الماضي، لقد استشهد هنا العديد من الشبان على ايادي الميلشيات. لكنها الآن مكانًا للاسترخاء والترفيه. تتجول العائلات البغدادية كل مساء فيها من كل الأعراق والديانات والثقافات.
تلك جامعة بغداد العريقة وأشار الرجل إلى مبنى ضخم ومرتفع يشبه الكرة الزجاجية العملاقة، لقد تم بناؤها بهندسة عجيبة. كانت أول جامعة في العراق والمنطقة العربية، صارت اليوم أفضل جامعة في العالم، يحضر اليها طلاب العلم من بقاع الأرض. يُدرس فيها أحدث المواد العلمية والفنية والإنسانية، ويتخرج منها كل عام أفضل الخبراء والمخترعين المعروفين في العالم.
هذه المدينة القديمة. وهما يدخلان إلى حي البتاويين محاط بسور عال. كان هنا قلب بغداد النابض في الماضي، ولكن بعد الانفجار تضررت كثيرًا. ثم قامت الحكومة بإعادة ترميمها وحفظها كموقع تراثي، يذكر العراقيون بماضيهم الحزين. تجد فيها المساجد والكنائس والمعابد، والأسواق والمطاعم والفنادق، والمتاحف والمكتبات والمسارح.
عندما كانا يمشيان وقبل أن يصلا إلى شط ذي ماء نقي وصاف. قال الرجل ذاك نهر دجلة، كان مصدر حياة بغداد وسكانها في الماضي، تلوث بعد الانفجار. فقامت الحكومة بتنظيفه ومعالجة مياهه الملوثة وإعادة إحيائه. هنا تجد القوارب والسفن، والجسور والأنفاق، وتمتد الحدائق والملاهي على طول ضفافه.
قال مصطفى: هل هذه بغداد حقًا! إنها تحفة فنية، مكان يرغب كل إنسان العيش فيه.
رد الرجل: أجل، إنها رائعة، ولكنْ هناك شيء أروع منها، أنه الشعب. الذي جعلها بهذا الشكل. بعد حدوث الانفجار لم يستسلم لليأس والخوف، بل نهض للبناء من تحت الانقاض، شارك كل أبنائه في العمل بجد وعناء ومثابرة.
لكن عليك أن تعرف أن هذا ليس الواقع، بل هو مجرد إحدى الإمكانات. لأن الجهاز يسافر إلى اشكال مختلفة من المستقبل، قد يختلف عن شكل هذه المدينة التي تراها، ربما تكون بغداد في مستقبل آخر أفضل من هذه، أو أسوأ بكثير. فكل ما نفعله في الحاضر، يؤثر على شكلها في المستقبل.
سأل مصطفى: لكن من أنت؟ ولماذا تفعل هذا؟
قال الرجل: أنا مجرد رجل يحب بغداد، ويريد أن يشارك حبه مع الآخرين. أفعل هذا لأنني أريد أن أظهر لك ما يمكن أن تكون عليه المدينة، إذا اختار أهلها المستقبل الصحيح. ثم نظر إلى ساعة في معصمه وقال: لقد حان وقت العودة.
أخذ الرجل بيد مصطفى واتجه إلى جهاز الزمكان، ضغط على الزر. شعر بالدوار مرة أخرى. بعد لحظات، فتح على عينيه، رأى أنه عاد إلى مخيم اللاجئين. يقف الرجل بجانبه وينظر إليه بعينين حانيتين.
سأله: إلى أين سوف تذهب؟
- إلى كل مكان وزمان فأنا مسافر في الزمكان.
ثم ارتدى نظارته السوداء. حمل الجهاز واتجه إلى السوق، ثم اختفى وسط الزحام.