محمد طهمازي
ثمّ التباس كبير يتكرر في الخلط ما بين القيم الجماليَّة والقيم الفنيّة للعمل الفني يسقط فيه المتلقون وحتى أغلب المشتغلين بالكتابة في المجال الفني يرجع سببه للخلط ما بين مصطلحي (الفن والجمال).
وعلى الرغم من قرب المفهومين من بعضهما لكن هنالك اختلافا كبيرا في المعنى والمفهوم والمساحة يؤدي الاستمرار في عدم التفريق بينهما واستخدامهما للتعبير عن ذات المعنى إلى سوء فهم لا يمكن توقع مساحته الثقافيّة والعلميّة.
إن الجمال تعبير يتعاطى مع أحاسيس الإنسان ومحركاته الوجدانية وبالمقابل يعبّر بالفن عن عملية الخلق أو إعادة الخلق المادي أو ما يتعلق بالمادي بشكل يؤدي للتأثير في أحاسيس الإنسان بشكل من الأشكال، وهو علم مستقل له فلسفته ومفاهيمه وقيمه.
والجمال لا يوجد مستقلاً عن إحساس الإنسان، كما يقول سانتانا، وحينما نقول إن ثمّ جمال لا نستطيع إدراكه فهذا يعادل قولنا إن ثمّ إحساس لا نستطيع الشعور به.. إن الجمال يمنحنا شعورًا أو وهمًا بأننا متحررون من أجسادنا ويجعلنا نحلق كالأرواح بشفافية تسيطر على مشاعرنا دون أن تلمسها.. ومن هنا تأتي مشكلة الكاتب والمتلقي الذي لا يكتفي بالسخرية من الأعمال الفنية المُحلقة خارج فضاء المذاهب الجمالية الكلاسيكية، التي لا يفقه غيرها ولا يعترف بغيرها كونه يسكن عند الخط رقم صفر الذي يفصل بين عالم وعالم وبين زمان وزمان وبين رؤية جمالية قديمة ورؤية جمالية جديدة لم يعرف حرفًا من لغتها لهذا لم يعي شيئًا من خطابها الذي عبرت مدته قرنًا من الزمان. زمان ما زال ذاك الساخر المهاجم يعيش خارجه دون أن يفتح أفاق وعيه ليبحث ويتذوق ويرى بوجدانه لا بقوالب عقله البالية.
يعرّف الجمال الكلاسيكي وفق ما درسناه بأنه الجمال المثالي والمتفق عليه عند عامة الناس ولنسميه الجمال العام أو الرؤية العامة أو المفهوم العام للجمال وفيه يكون خطاب العمل الفني مفهوم بنسبة عالية لدى عموم المتلقين باختلاف مستوياتهم الثقافية والذوقية. وهو مرتبط في رأينا بمرحلة ثقافية وحضارية معينة كانت المقاييس العامة هي التي تتسيّد الساحة، تحركها الثقافة والمصالح والرؤى والخطاب الخاص بفئات متحكمة بعامة الناس دينيًّا واقتصاديًّا، فيما رؤية الفنان الجمالية وفكره تتوارى خائفة خلف الكواليس ولا يُظهر منها سوى النزر اليسير.
ويمثل الجمال الخاص الرؤية الذاتية المتحررة من قيود الرؤية العامة الخانقة والتي وجدت الفرصة لها لتتنفس بحرية وتعبر عن نفسها في عصر انحسار سلطة الكتل القديمة المتحكمة والقيم المجتمعية البالية وكانت لها مساحات من المتعطشين للجمال المختلف والثقافة المختلفة والانفتاح على آفاق حياة جديدة بعد عصور من التحجر.
إن تحول الفنان عن اعتماد القيم الجمالية الكلاسيكية التي تعبّر عن الجمال بشكله المثالي، لا يعد خروجًا عن دائرة الجمال إن كان ثمة دائرة للجمال لأن الجمال عالم لا حدود له، ولكن الفنان هنا ارتقى في رؤاه إلى مستوى أعلى من النضج الفني والاتساع الفكري والخطاب الإنساني الأرقى، وصار الفنان يعبّر عما يراه جماله الخاص لا الجمال المفروض عليه من السواد المجتمعي أو السلطوي. جماله الذاتي الذي يود أن يقدمه للناس بطريقته الخاصة وببصمته المميزة. إن المدارس الحديثة التي أعقبت المدرسة الكلاسيكية وجاءت بثوّار جماليين كبار من الفنانين كانت تتحرّك وفق قيم جمالية إبداعية تحمل خصوصية الرؤية الجمالية لهؤلاء الفنانين أمثال كلود مونيه وإدوارد مانيه وبول سيزان وجورج سورا ثم فينسنت فان كوخ وأميديو موديلياني وحتى فناني المرحلة الواقعية السابقة والرومانتيكية بتقديري وإن كان فنانوهما لم يأخذوا حريتهم الكاملة في التعبير لكنهما كانتا جسرين من جسور العبور إلى الحداثة أمثال غوستاف كوربيه وجان فرنسوا ميليه وروزا بونور ودي لاكروا.
ثم جاءت بعدها مرحلة الجمال الخارج عن حدود الرؤية الفردية ذاتها وعن أي قالب جمالي يمكن اعتماده لتذوقه أو تقييمه والفن هنا دخل في مرحلة خلق قيم جمالية جديدة أو لنقل أنماط جديدة يضع التذوق أو الرؤية الجمالية على سكتها فتح الباب لهذه المرحلة الجبارة بيكاسو الذي عمل جاهدًا ليغير المفاهيم الجمالية كلها ويحطم النسب التقليدية ليخلق نوعا مختلفا من الإبداع لا يلتزم بالقيم الجمالية حتى الحديث منها ولا يركن لقالب أو أسلوب. ليفتح آفاقا لا حدود لها ولا قيود عليها حتى يومنا هذا.