ذرائعيَّة الواقع في عالم الشطرنج

ثقافة 2024/03/13
...

  رنا صباح خليل 

يطرح القاص نهار حسب الله يحيى نفسه في مجموعته القصصيَّة «بيدق في عالم الشطرنج»، مشخصا بارعا، دقيق الملاحظة، يقظ المشاعر، متفتح العينين والبصيرة، يرقب، ويلاحظ، ويصور، ويصرخ بسخريّة مرة في وجه كل قبيح وهو يضع نصب عينه أن القصة القصيرة في موروثنا النقدي جنس سردي، يمتلك تقاليده الخاصة في اقتناصه اللحظة الشاردة والفكرة المكثفة على وفق بنية شديدة الأحكام، لما تلتجئ إليه من آليات في الاعلان عن نفسها وتحقيق اواصر الاعتراف الفني والاجتماعي بها.

 خصوصا أنها صادرة من مخيلة لا تروم ملء الفراغات بقدر انخراطها السردي في إعادة بناء وتفكيك راهنها الاجتماعي والإنساني والوجداني، المجسد بالفعل  في وتيرة الواقع المادي المشهود في حياة هذا المجتمع أو ذاك من موقع المبدع المتميز الذي بقدر ما تقهره ظروف راهنه فينفصل عنه أو يجتث منه، بقدر ما يزداد اتصالا به وتواصلا معه وتجذرا فيه، وهو ما يعطيه قدرة على مسرحة الحدث وإدخاله في حركية واعية تضع القارئ أمام المشهد بحذافيره.    

تمثلت قصص المجموعة بمحاكاتها للواقع، الذي تعيد بناءه على نحو حيوي، مركز ومكثف، يقوم على الاختزال في كل شيء: اختزال اللغة، مادة وأسلوبا ووظيفة، اختزال فضاء المكان والزمان والشخصيات، ثم -نتيجة لكل ذلك - اختزال الموقف والرؤية الفنية المقترحة. ولعل هذه الخصوصية الجمالية في القص هي التي جعلت من القصة القصيرة عموما فنا مراوغا، عنيدا، يستهوي الكثير من التجارب الإبداعية المبكرة، ولكنه لا ينقاد بسهولة إلا للتجارب الإبداعية الفذة المؤسسة التي أوتيت موهبة القول مشفوعة بامتلاك أدوات إنجازه. وغالبا ما نجد أن إعلام القول الذين ثبتوا في هذا المجال وصاروا محل احتكام فيه، هم أولئك المبدعون الذين استطاعوا أن يتمثلوا ويمثلوا أخص الخصائص الجمالية، التي تواترت في النص السردي ولكن بطرق مختلفة، واولى تلك الخصائص التي نرصدها هنا هي عتبة العنوان للمجموعة، الذي هو عنوان احدى القصص فيها ايضا، ولم يكن اختياره الا لاختزال الخيط الرابط الذي يجمع دلالات وموحيات القص في المجموعة القصصية كلها؛ ذلك أن الواقع الذي يصوره القاص ـ بشقيه الفعلي والتخيلي ـ يروم مشهدية خلق عالم الفرد العراقي بعد خوضه اعوام الحروب والانتهاكات، وصولا الى سلطة حاكمة معدمة الولاء لشعبها ولوطنها، وهي تتعامل مع الناس بوصفهم بيادق تحركهم بيدها كيفما تشأ في عالم شبيه بعالم يحتكم الى قواعد لعبة الشطرنج، فيرتفع بيدق وينخفض آخر والبيدق له دلالته المعهودة، إذ هو القطعة الأكثر عددا في لعبة الشطرنج، وفي معظم الظروف يكون أضعف قطعة، وهي تمثل تاريخيا المشاة أو بشكل اكثر تحديدا عامة الناس من المسلحين لخدمة نظام الدولة ومرؤوسيه. 

وقد استثمر القاص هذه الفكرة في وصف حالة الخوف والرعب من فكرة ان يكون كل فرد عبارة عن رأس بيدق، تلامسه يدا خفية فتحركه وتغير موقعه تبعا لمصالحها وقد استخدم القاص فيها رمزية عالية اختزلها بعبارة «كش ملك» المنتظرة من قبل البيادق لتعلو عبارة «كش شعب» في ابادة جماعية يكون الانتصار فيها لصالح الملكين، فيتعانقا في النهاية. وهذه الدلالة بعنوانها وجوها العام استأثرت على الكثير من مفاصل الحكي، وتكررت بأوجه متعددة كان احدها قصة «لعبة الدمى البشرية» وفيها تناول الواقع السياسي وفضح اطماعه عن طريق احد الساسة الذين رسمت لهم خريطة تأجيج الطائفية، وخلق النزاع بين فئات الشعب العراقي في محافظاته الشمالية والجنوبية. 

في الحقيقة أن هذه القصة امتلكت تركيبها الخاص الذي يقول، وصياغتها، التي تكشف عن التجربة والمعنى بما يرسخ في الذهن أن أي تدخل مباشر في النسيج السردي، يعد شيئا زائدا عن السرد ومفسدا لبنائه، وما نراه أن المعالجة الفنية في المجموعة القصصية كانت  تحمل خاصية التفرد في طريقة الرؤية واسلوب الاشتغال على مستوى القول والاخبار، ولهذا نجد أن هناك نصا يحمل بساطة الفكرة وعمق الفنية، ونصا آخر يحمل عمق الفكرة وبساطة الفنية، الا أن ثمة خيطا رفيعا، يجعلنا مشدودين ولاهثين، ونحن نبحث عن نقطة الوصول للدلالات، التي عكسها القاص وهي بمجملها تعبيرا ذاتيا عن رفضه للواقع، الذي يعيش بداخله وتجسده سلطة ونظام حاكم قاهر ودموي، وفي خضم ذلك الواقع كان يلتقط موضوعاته من ثنايا لحظات وامضة تنطق من صناديقها المغلقة النظرة العابرة، التي تمتلك سرا يأخذنا إلى بانوراما الانتزاع من احضان الاهل للارتماء في مكب الغربة وتداعياته في قصة «قبر فوق السحاب» التي رثت بيت الاجداد بعدما غادرته الشخصية المركزية في القصة ليتناولها القاص مقتنصا حادثة تهديم البيت الخاص بالسيد حيدر عبد الحسين محمد، وهو يحمل تاريخا عائليا قضت عليه آليات التحضر بعدما لم يستطع الحفيد ايقافها فنشأ عن ذلك بناء ناطحة سحاب تتوج بنصب تذكاري للشيخ صاحب البيت القديم مكان الناطحة، وفي هذه القصة ادخل القاص بعدا استشرافيا في عبوره الزمن ليصل بعامه إلى 2070 بعدما بدأت الهجرة في عام 2006 في محاولة لإعادة الاعتبار للأحلام والخيال عن طريق البحث المستمر عما وراء الظاهر والمألوف وبدا لي وكأن القاص، وهو يلتقط تلك اللحظات، يحارب رتابة التكرار، وملل العادي وسذاجة الوضوح، ليخرج أبطاله من دوامة العبث، والدوائر المفرغة، إلى كون متسع وفسيح. يمنحهم حياة إضافية، بعد أن فرمتهم ماكينة الزمن، وبعد أن فقدوا أسباب الدهشة.

في المجموعة قصص لها اثرها الذي هو اشبه بشرارة خرجت من احتكاك حجرين احدهما الرغبة بالحياة والآخر السعي المفترض نحو الموت، وكان أن نتجت عن تلك الفلسفة قصصا واعزها الاساس بطلا يقبل على الحياة بتلبية وصية امه في أن يرسم البهجة في نفوس الناس في قصة “ابتسامة الوجوه المتعبة” وآخر يخاطب حبه للحياة بأن يبث الفرح بين رفاقه وهو في جبهات القتال، فتكون النتيجة أن ينتصر هو بحبه للحياة ويحيا ويقتل اصدقائه في المقابل في منازلة هوجاء تقتص من الانسانية بكل اشكالها في قصة “الموت والحياة.. أحيانا” أما حجر الموت وافتراضاته في القصص فقد جاء بصور أخرى، ومن ذلك قصة “الوصية ما قبل الأخيرة” وقد جاءت بفكرة مفادها بأن يتوقع شخصا ما موته كل يوم فيكتب وصيته، الا اليوم الذي مات فعليا فيه إذ وجدوا رسالة في جيبه بدلا عن الوصية أو هي وصية اليوم السابق لموته وليست وصية ذلك اليوم الذي لقي حتفه فيه، وفي هذه القصة استدعى الترميز طاقات كتابية لها ثقلها الذي يتخطى عملية الكتابة في اضفاء اجواء الموت المرتقب بعد أن فقد الانسان احساسه بالأمان في بلد تفشت فيه المفخخات واساليب القتل المتنوعة فلم يعد للفقراء سوى كتابة عوزهم وحرمانهم في رسائل، وبما أن القصص جاءت وهي تمتلك بناء متماسكا ومتصلا، وتجمعها تيمة البحث وإعادة الاكتشاف في قضية الموت جراء الحروب ومآلات تداعياتها على الناس فقد اهتم القاص بأبسط المواقف واقل الاشياء واضيق الأماكن، التي من خلالها يتسع عالم القص لديه، ومن ذلك أم تندب حظها بفقدها ولديها في إحدى حروب العراق ليعود لها في النهاية أحدهما، ويتأسر الثاني في قصة “بيت السيدة العجوز”، ورجل يحاول استلاب نفسه من حرب لا علاقة له فيها، فيتهرب عنوة من جنود الانضباط، ثم تعتزم امه تزويجه ليأتي بطفل ظلت تسميه ابن الحواسم، بعد أن تمت سرقة تاريخه ويوم مولده وفرحة وجوده في هذا العالم، وذلك في قصة “حرب ما بعد الحرب”. أسلوب الكاتب، إجمالا، في هذه المجموعة واضح، وبعيد عن الغموض والتعقيد، لكنه استخدم الرمز بوصفه سمة أسلوبية من سمات القاص المتمكن من أدواته الفنية، ولذلك جاء الرمز شفيفا غايته وصف الواقع، الذي بدا أكثر سوداوية وتشاؤما، وهو يلاحق حالة التمزق العامة والشرخ الذي أحدثته في النسيج الاجتماعي العراقي، وفوضى في القيم الوطنية والفساد السياسي والأخلاقي، وازدواجية في المعايير الإنسانية العامة. كما ظهرت المواقف من الأحداث أكثر تشظيا وضياعا، مما أسهم في انعدام الرؤية والتوجه المستقبلي.