إلياذة وأوديسة هوميروس: نقل القيم

ثقافة 2024/03/13
...

* ترجمة وتحرير: كامل عويد العامري 



إن فتح كتابي الإلياذة والأوديسة يعني الانغماس بلذة في الأجواء الأدبية الأولى. لذلك لم يكن بالوسع جذب الانعطاف نحو الماضي البعيد والمعاصر في الوقت نفسه. إن هوميروس، بإبداعه، قد قال ووصف وفهم تقريباً كل شيء. ولهذا السبب فهو أب السرد برمته، والشعر كله، ولهذا السبب أيضاً يفتح أعيننا، على مسافات آلاف السنين... إن الغوص في تلك الأمواج القديمة أمر لا يقاوم وضروري في الوقت نفسه، لأننا نخرج منها وقد تطهَّرنا وتغيرنا وأصبحنا أغنياء بالدروس الأبدية.

تعتبر الإلياذة والأوديسة، اللتان كُتبتا في القرن الثامن قبل الميلاد، قصيدتي سلام ومحبة وتجاوزاً للذات. ويمكن لكل واحد منا أن يجد شيئاً يستعيره من شجاعة وذكاء وبراعة يوليسيس، وصبر وولاء بينلوب، وعقل نيستور. كل شيء نجده لدى هوميروس: اختراع الرواية، وتكريس الإنسان، وانتصار الإنسان في وجه رياح القدر، ومجد الأبطال، وفضيلة القدوة في زمن الرابطة الاجتماعية، والعلاقة المعقَّدة، المنصهرة والمؤثرة بين الآباء والأبناء، وبين الأبناء والآباء، وإدانة الحرب، والمكر في مواجهة أفخاخ الطغاة، وخلود القيم القديمة، أساس العالم الحر. ثم، قبل كل شيء، هناك حب الجمال، والتغنِّي بالحياة.

مصير الأبطال

كل شيء يبدأ بالإلياذة. “أيتها الآلهة، غني لنا عن غضب أخيل. “ الافتتاحية بارعة. فهي تكشف عن غضب أخيل الناتج عن غضب أبولو ومصدر سلسلة من المصائب. كان مشهد الغضب الإلهي هو حرب طروادة التي لا تنتهي، والتي ولدت من الشجار بين أثينا وهيرا وأفروديت، اللواتي كن يتنافسن بجمالهن، فقد ألقت الإلهة إيريس، وهي مستاءة من عدم دعوتها لحضور حفل زفاف بيليوس وثيتي التفاحة التي كتب عليها “للأجمل”، فنشأ جدال بين هيرا وأثينا وأفروديت: وللفصل بين الآلهة، استدعى زيوس «أب الآلهة والبشر» باريس، للاختيار بينهن، فوعدته الآلهة الثلاثة بالهدايا: هيرا قدمت له القوة الملكية، وأثينا المجد العسكري، وأفروديت أجمل امرأة في العالم. لكن باريس أعطى التفاحة الذهبية، المكتوب عليها “ للأجمل: [التي سميت تفاحة الشقاق أو تفاحة الفتنة] لأفروديت (إلهة الحب) التي وعدته بحب أجمل امرأة في العالم (هيلين)، فغادر إلى أسبرطه وأخذ معه هيلين الجميلة، زوجة الملك مينيلوس، ليصطحبها إلى طروادة.. لكن الأخير غضب فجمع هو وشقيقه أغاممنون، ملك ميسينا، جيوشهما لمحاصرة المدينة، والتخلص من هذه الإهانة الكبرى والعمل على استعادة هيلين. هكذا بدأت حرب طروادة الشهيرة، حرب الشرف والحب. الحرب التي استعرت عشر سنوات في الوقت الذي تبدأ فيه الإلياذة. لقد سقط بالفعل العديد من المحاربين وبدأ الناس يخشون من أن المنتصر لن يجلب سوى الدمار.

ينضم أخيل، نصف إنسان ونصف إله، لأنه ابن الحورية تيتس، ويوليسيس، ملك إيثاكا، إلى صفوف اليونانيين. باريس، الذي يوحي مظهره الجميل بأنه محارب جيد، يتحدى مينيلوس، ملك أسبرطه، على أمل تجنُّب إراقة الدماء. وبينما يضع مينيلوس باريس تحت رحمته، وعلى استعداد لقتله، تأتي الإلهة أفروديت لمساعدته، “وتخفي الشجاع تحت ضباب كثيف وتودعه في غرفتها العطرة بالعطور العذبة”. لكن، أغاممنون كان غاضباً يطالب باستعادة هيلين.

تلعب الآلهة هنا بسعادة مع البشر: “يقود آريز - وهو إله الحرب، وابن زيوس وهيرا - فريق طروادة. وتقود أثينا، الإلهة ذات العيون المزرقة. الفريق الآخر” أثينا وهيرا يعملان على إجهاض الإغريق خلال المعركة الأولى. يقوم حامي أثينا بتسليح ذراع البطل ديوميديس الذي يذهب إلى حد جرح إلهين، أفروديت وآريز. وستكون عقوبة زيوس هي العمل من أجل انتصار الطرواديين، مما أدى إلى إغراق اليونانيين في حالة من الفوضى، وعلى استعداد للتخلي عن أسلحتهم.

بعد أناشيد الحرب الطويلة التي تتناوب فيها الآلهة بين التسلية أو الانتقام، يقلب حدث ما التاريخ رأساً على عقب. يوافق أخيل على السماح لباتروكلوس، أعز أصدقائه، وجيش المرميدون بالمغادرة، بإنقاذ اليونانيين.  وبعد أن أشعل هيكتور النار في سفنهم، يقاتل باتروكلوس، الذي حمل أسلحة أخيل. وفي نهاية معركة طويلة، يموت باتروكلس، من دون أن يخبر هيكتور أن نهايته تقترب. يستولي ابن بريام على أسلحة أخيل ويعود منتصرا إلى طروادة.

أخيل، المذهول من الغضب والحزن بعد أن علم بوفاة باتروكلوس، يقرر الانتقام له بحمل السلاح مرة أخرى لقتل هيكتور والانتصار على الطرواديين. وعندما وصل إلى سفح أسوار طروادة، أطلق صرخات رهيبة حتى يخرج هيكتور لمواجهته، وكان على استعداد لمحاربة نصف إله بدافع الشجاعة بقدر الضرورة. ينتصر أخيل كرياضي منشط بقوته الإلهية ويدنس جثة عدوه النبيل بجرها إلى عربته بدلاً من إعادتها إلى والده المذهول. حتى تشعر الآلهة بالشفقة على هذا العار.

تنتهي الإلياذة بالموت والحزن: الحزن على باتروكلس، والحزن على هيكتور، الذي ساعدت الآلهة والده بريام على دخول المعسكر اليوناني. فأيقظ رثاؤه الطويل تعاطف أخيل الذي يوافق على إعادة جثة ابنه إليه. وكانا في كلا المعسكرين يبكيان. وإذن، فمن الذي انتصر حقاً في هذه الحرب؟

لا أحد؟ ربما يوليسيس، ومعه كل رجل قادر على اغتنام الفرصة لتحقيق مصيره.

من الغضب إلى المكر، ومن الحبس إلى السفر

ثم تبدأ الأوديسة. “إنه رجل ذو الحيل الكثيرة، يا ملهمة، أخبريني عن ذلك الذي نهب طروادة، المدينة المقدسة، والذي تجوَّل لسنوات عديدة” الغضب يقابله المكر. وللسجن يستجيب السفر والتيه. بعد حصار طروادة الطويل، وبعد مساعدة اليونانيين على الانتصار في الحرب بفضل الحصان العبقري، يعود يوليسيس إلى موطنه إيثاكا. فينطلق بطلنا في رحلة طويلة للعثور على موطنه وزوجته بينلوب وابنه تيليماخوس.

كتب يواكيم دو بيلاي: سعيد من يشبه يوليسيس في رحلته الجميلة...”. لكن عودته، التي أحبطتها الآلهة، ستستمر لسنوات عديدة.. يظل يوليسيس أسيراً للحورية كاليبسو سبع سنوات: “لقد كانوا في المنزل، جميع الأبطال الآخرين […] ولم يبق سواه هو الوحيد، الذي كان مشتاقاً للعودة لوطنه ولزوجته دائماً” لقد أخطأ يوليسيس بدافع الكبرياء. من خلال تشويه العملاق بوليفيموس والتفاخر بمكره، أثار غضب والد ضحيته، إله البحر الرهيب بوسيدون. «يا بوسيدون، استمع،” يتذمر بوليفيموس، “افعل من أجلي ألا يعود يوليسيس أبداً إلى المنزل، سارق إيليون!» يبعد الغضب الإلهي بطلنا عن عائلته مدة طويلة. وبينما يتوافد المطالبون بالعرش إلى إيثاكا، ينطلق تيليماخوس، ابن أوديسيوس، بحثاً عنه.

بعد أن تخلّى عن الحياة الأبدية التي وعدته بها الملهمة كاليوب إذا بقي بجانبها، يبدأ يوليسيس في هذه الأثناء برحلة شاقّة. يفضل ملك إيثاكا العودة إلى منزله وإلى زوجته، حتى لو كان ذلك على حساب حياته: “أيتها الإلهة المبجَّلة، استمعي واغفري لي: أقول لنفسي كل هذا! […] ومع ذلك فإن أمنيتي الوحيدة التي أتمناها كل يوم هي أن أعود إلى هناك، لأرى في بيتي ذلك اليوم”.

تحت رياح بوسيدون، سوف يجنح يوليسيس على شواطئ مختلفة. كلها محطات في رحلته المبتدئة.. عند الفياشيين، يكتشف الضيافة التي يُعامل بها الغريب ويحكي قصته من كيكونيس إلى لوتوفاج، من السايكلوب إلى سيرسي الساحرة، مروراً بجزيرة الحوريات، وهوة كاريبديس [الوحش الأسطوري].  والحورية الجميلة سيلا، وجزيرة الشمس حيث يضحي رفاقه بأبقار الجزيرة للوليمة متجاهلين نصائح يوليسيس، ليتلقوا عقوبة إلهية تحرق سفنهم، تاركة يوليسيس الناجي الوحيد. 

ينطلق الفياشيون، الذين استحوذت عليهم العاطفة لقيادة بطل حرب طروادة إلى أراضيه. عندما يستيقظ يوليسيس في إيثاكا، يجد صعوبة في التعرف عليها: “أمام انظار السيد، كان كل شيء غريباً، مراسي الموانئ، والصخور العتيقة، والدروب المتعرجة والأشجار الكثيفة”. فسكبت أثينا الحكيمة “ سحابة” منعته من التعرف على إيثاكا.لأنه لا يزال يتعين على يوليسيس أن ينتصر على الخاطبين الذين يطمعون في مكانه، زوجته، وثرواته. تلهمه الإلهة بأن يتنكَّر كمتسوِّل ليوقعهم في الفخ. وبمساعدة تيليماخوس، يعد يوليسيس بالانتقام الذي سيقودهم إلى الجحيم. وبينما يُطلب من بينيلوب اختيار زوج جديد من بينهم، فإنها تعد بالزواج من يمكنه إطلاق سهم عبر اثنتي عشرة فأساً باستخدام قوس يوليسيس. كلهم يفشلون بالطبع. لكن المتسول ينتصر ويفوز بالمرأة التي هو متزوج منها بالفعل. وبعد أن يكشف عن هويته الحقيقية ويذبح المتمردين. “ وبعد رحلات شاقة، يجد أرض السنوات الخضراء”.

أبطال هوميروس: إشباهنا، وإخوتنا

لقد كان الأبطال موجودين بالفعل في أذهاننا مذ كنا صغاراً جداً ويرافقوننا خلال مراحل الحياة. من منا لم يحلم يوماً بيوليسيس كصديق، وبهيلين كأخت، وبينلوب كزوجة؟ من منا لم يحم آذانه وهو يستمع إلى أغنية الحوريات؟ لقد جعلنا هيكتور وأخيل ويوليسيس أحياء. لأنهم هم أيضاً من أوهامنا، وآلامنا. لقد كتب لامارتين لا شيء حقيقي، ولا شيء زائف؛ كل شيء حلم وكذب، وهم القلب الذي يطيله أمل فارغ. حقائقنا الوحيدة، يا رفاق، هي آلامنا””... وعلى الرغم من تدخل الآلهة، لا يستطيع البطل الهوميري الاعتماد إلا على قدراته الخاصة. لا قوة ولا رحمة من سيد المياه أو الريح يمكن أن تنقذه من الزمن أو المعاناة أو الموت.  في أعمال هوميروس وهسيود، يجب على الإنسان البطل أن يتعلم من ويسعى نحو كمال لن يستطيع أبداً تحقيقه.

ثم يشكل الأبطال شخصية ترتقي إليها الطموحات، وتسمح لنا من خلال سموها العالي الارتقاء إلى مستواها. وفي الوقت الذي فيه تدان النزعة الفردية عند كل منعطف، فإن الشخصيات العظيمة تصهر عزلتنا في بوتقة القيم المشتركة. لقد كان لكل قرن أبطاله، وبطلاته، من ورق أو من الدم. من جان دارك إلى نيلسون مانديلا، ومن فرسن جيتريكس إلى سيمون فيْ، ومن لافونتين إلى جان مولان. القاسم المشترك بين الأبطال هو أنهم يجسدون ويعززون النضال من أجل الحرية. إن عصرنا يتحدث عن نماذج من نساء ورجال يحتذى بها اليوم، من رواد الأعمال، والناشطين في مجال حقوق الإنسان، والمساواة بين الجنسين، ومكافحة ظاهرة الاحتباس الحراري. وبغض النظر عن ذلك، فهم يلهمون ويربطون المجموعة بنار المثل الأعلى المشترك.

كل من الإلياذة والأوديسة أناشيد للذكاء البشري، الذي تكمن عظمته على وجه التحديد في الحدود المخصصة له. قدم هوميروس قصيدة بارعة لتجاوز الذات، مع الحفاظ على الواقعية. أبطاله بشر، كلهم بشر أيضاً. استقامتهم الأخلاقية ليست دائماً ثابتة، وهم فريسة للعواطف. عيوبهم وعواطفهم تجعل من السهل التعرف عليهم. هذه الشخصيات الرئيسة غير معصومة من الخطأ: يجمع أخيل الفذ بين الشجاعة التي لا مثيل لها والغضب الأعمى الذي يدفعه إلى التصرف بطرق لا تليق بقيمته. الأبطال اليونانيون دائماً ما تغريهم الغطرسة: جنون العظمة الذي يطرد أحلك القوى من أنفسهم، ويدفع الأبطال نحو الكارثة.

دعونا لا ننسى أن بيلييد ذبح اثني عشر من أمراء طروادة بعنف غير مسبوق في محرقة باتروكلوس، قبل أن يدحرج جثة هيكتور في التراب. ومن خلال توبته، عندما أعاد جسد أمير طروادة إلى والده المكلوم، اكتشف من جديد نبل البطل الحقيقي: “ولكن دعونا نترك الماضي، على الرغم من معاناتنا، ونسيطر على قلوبنا، يجب ذلك، أتخلى اليوم عن غضبي، ولا يليق بي أن أتعنت في غضبي”. إن خيار الاعتدال، في رجل متطرف، يعيد الكرامة الملطخة بالدماء. بريام وأخيل، كلاهما في حداد، ينعيان موتاهما معاً. إن نجاح أبطال هوميروس على مر الزمان هو أننا نستطيع جميعاً أن نتعاطف معهم، في عظمتهم وبؤسهم. 

نحن نضحك عندما نكتشف أن رفاق يوليسيس، المسافرين الشجعان، وهم يستسلمون لعواطفهم، ويستمعون فقط إلى الفضول الطفولي المتمثل في فتح الحقيبة التي سلمها أيولوس [إله صغير مسؤول عن رياح الجهات الأربع] إلى سيدهم. “ يا للبؤس! [...] لقد كان قد عاد من طروادة بحمولته الجميلة من الغنائم الثمينة، بينما نحن، في نهاية الرحلة نفسها، لم يكن لدينا سوى أيدي خالية الوفاض في العودة إلى الوطن [...]. هيا، أسرع “علينا أن نرى ما هي هذه الهدايا. “نحن نبكي عندما يموت هيكتور، الرمز لأنقى المشاعر الإنسانية، ذليلاً تحت ضربات أخيل، نصف الإله. لا، الإلياذة والأوديسة ليستا أغنيتين تمجدان قدرة الأبطال المقاومين المطلقة. بل هما رسالة عن العواطف، البشرية والإلهية على حد سواء - وبما أن الآلهة يمكن أن تكون أيضاً غاضبة أو غيورة أو مخادعة، فإن الإلياذة والأوديسة تحذران من قوة العواطف: إذا لم نتحكم فيها -- إذا لم نعرف أنفسنا- فإنها تبعدنا عن الشاطئ، وتجلب اللعنات والرياح المعاكسة.

ومن خلال هذه الصور البطولية، التي لا تفسح المجال لتصوير مبالغ فيه أو لدروس مهيبة، يستطيع كل واحد منا أن يعيد اكتشاف تجاربه ومحنه. الأوديسة هي سعي للحقيقة، سعي لاكتشاف الذات في عالم فيه تُحبط الخطط باستمرار، ولكن العقل المنطقي هو العون المستمر. إن لقاء يوليسيس مع الصقلوب مذهل: حيلته - اتخاذه اسماً “لا أحد” لإغراء الوحش، ثم الحاجة إلى ذكر هويته، واسمه، والسمة الأساسية لشخص ما”. أيها الصقلوب، إذا علم أي إنسان بالمصيبة التي حرمتك من عينك، فقل لمن أعماك: إنه ابن لارتيس، نعم! ناهب طروادة، رجل من إيثاكا، هو يوليسيس”. ومن خلال قوله، وتقبله، يدين يوليسيس نفسه برحلة طويلة، والتي ستكون فرصة لتعزيز معرفته بهويته.

كانت العصور القديمة، اليونانية ثم الرومانية، مسؤولة عن الاختراع المذهل للذات، ثم للإنسان. تمنح قوة الصفات الهوميرية جسداً ووجوداً فريداً للشخصيات - هيرا هي “الإلهة ذات الأذرع البيضاء”؛ وهيكتور المحارب “ذو الخوذة اللامعة”؛ أخيل “ابن بيليوس”. لقد لاحظ ميشيل فوكو ظهور “الاهتمام بالذات” في وقت مبكر من العصور اليونانية الرومانية القديمة، من القرن الخامس قبل الميلاد إلى القرن الثاني الميلادي. إن أمر “اعرف نفسك”، المنقوش على قاعدة معبد دلفي المخصص لأبولو، فتح مجالاً لأخلاقيات الذات، ووظيفتها، ومعرفة الذات. إن الإشارة إلى معبد دلفي ليست مجرد إشارة تجميلية: فهذا الأمر يعني أنه لا يمكن أن يكون هناك مصير أو طريق من دون معرفة كينونة الفرد. وسيكتمل اختراع الفرد بعد ذلك في روما، حيث يصبح الذات شخصاً من خلال القانون. إن القانون الروماني للأفراد يميز بين الأشياء والأشخاص، وبذلك يجعل هؤلاء الأخيرين أصحاب حقوق مختلفة، خاصة بالبشر، والمواطنين.

تضع المواطنة أيضاً أسس الحرية. ويُعبر عن هذه الحرية قبل كل شيء في المدينة، وفي المدينة اليونانية. ولهذا السبب كان انتصار مدينة على أخرى هاجساً عند اليونانيين. الحرية في النجاح، وليست في العبودية أبداً. وقبل كل شيء، تكمن الحرية في الحياة السياسية لمجتمع من المواطنين المستقلين، الذين يصنعون بشكل جماعي قوانينهم الخاصة. “يتوافق هذا مع أصل الكلمة اليونانية المقبولة والتي تعني “مجاناً”، والتي يبدو أنها تعني الانتماء إلى مجموعة النمو، أو الأَرُومَة، أو “الناس”.

“في الواقع، عندما فقدنا هذا الانتماء، فقدنا الجوهر، وكل ما يشكل قيمة الوجود - أي الحرية”، تقول لنا الأكاديمية جاكلين دي روميلي، الخبيرة في اللغة الإغريقية القديمة وأستاذة في كلية فرنسا، في عمل مؤثر عن “الانتماء”. حول مواجهة الحرية في اليونان القديمة. تأخذ الحرية أيضاً تعريفاً سلبياً – فالرجال والنساء الأحرار هما أولئك الذين يهربون من القيود، والمصير الوحشي الذي يثقل كاهل الملعونين. الحر هو من لن يكون أبداً عبداً، ونحن نفضل الموت الشريف على حياة تمضي في العبودية، وكما أنشد كورنيي في مسرحيته لوسيد: “الموت من أجل الوطن ليس قدراً محزناً / بل هو تخليد من خلال موت جميل”.

الاعتماد على جذورنا القديمة لإنقاذ العالم الحر

“الدروس القديمة ... ساحرة للغاية!” يشير كريستوف أونو-ديت-بيوت، في كتابه “دقائق التحف” المبهج. إلى أن النصوص والتعاليم اليونانية والرومانية مبهرة اليوم كما كانت في عصر النهضة. فهذا الشاب راسين، الذي كان يمتلك العديد من مخطوطات هوميروس، يشرحها ويستلهم منها (يعيد) كتابة مسرحيات تتحدث عن عصره. “قدرة هوميروس الرائعة على مزج الضحك والدموع والجدية والحنان والشجاعة والخوف وكل ما يمكن لمسه”، هكذا تقول إحدى مخطوطات راسين، الذي استلهم تحفته “أندروماك” من “الإلياذة” وهو في الثانية والعشرين من عمره. ماذا عن عصرنا؟

[...] يذكرنا الأبطال اليونانيون بأن الولاء يمكن أن يترافق مع الحرية، والغيرية مع استقلالية القرار، والتعايش والتسامح مع الإخلاص من أجل الصالح العام. إنهم ملتزمون بحرية لقضية أعظم منهم: هذه هي شخصيات هوميروس. وهذه هي الدعوة الموجهة إلينا.

إن حبل التذكير بالعصور القديمة يدعو أيضاً لاستجواب ممارساتنا المعاصرة وسوء فهمنا... عندما يقدم يوليسيس نفسه للملك ألكينوس بالكلمات “أنا غريب: بعد شدائد كثيرة، أتيت من بلاد بعيدة، من أراضي ما وراء البحر”، استقبله الفياشيون، بحفاوة وهم شعب بحارة، من الذين يعرفون تعب من يسافر بعيداً عن وطنه. يُقال إن ورثة الفياشيين يعيشون اليوم في بعض القرى الصقلية، ويتحدثون عن رعب صرخات [الغرقى] التي تخترق ليل البحر المظلم... في روما، توفر هضبة الكابيتول، الملجأ، ملجأ لأي شخص يرغب في أن يصبح مواطناً رومانياً. يبدو أن عالم اليوم ينزلق إلى إمبراطورية الخوف، حيث يصبح الغريب هو العدو مرة أخرى. فلنحذر من هذا الانجراف.

وأخيراً، تذكرنا الأعمال التي أسست حضارتنا بالقيمة العليا للسلام...”الإلياذة” تحذير من العنف البشري. عشر سنوات طويلة وقاتلة من الصراع، بسبب الغضب، لا غير، الذي لا يمكن احتواؤه! أخيل يعبر عن ندمه من عالم الموتى. “لا تحاول تخفيف الموت عني، أيها النبيل يوليسيس! أفضل لي أن أكون على أرض مزرعة فقيرة، حتى لو كانت بدون ميراث تقريباً بدون موارد، من أن أحكم هنا بين هذه الأرواح المستهلكة”.

لا شيء يفوق السلام...فبينما أصبح أمير طروادة يدرك على نحو متزايد الغرور الدموي للحرب، سعى إلى الفرار منها، وأمر بإغلاق بوابات المدينة، على الرغم من زمجرة مستشاريه. “بمساعدة سوء الفهم، وبادعاء أنك تريدنا أن نتصارع من أجل الجمال، أنت تريدنا في الحقيقة أن نتصارع من أجل امرأة”: إن المثل الأعلى الآن ليس أكثر من قناع لجشع غيور وعقيم.


عن كتاب: 

La compagnie des voyants 

de Mathieu Laine