كيف نصنع الطغاة؟ الحرب والحب وموت الأدب

ثقافة 2024/03/13
...






 عبد الغفار العطوي




نحن، العراقيين، الذين عاشوا في العقد الثمانيني من القرن العشرين، نعرف هذا الشعر الساذج الذي تحوّل بقدر قادر إلى أنشودة حماسية، يتغنى بها آلاف الجنود في الجبهات (كلمات كاظم الركابي، ألحان طالب القره غولي، فرقة الإنشاد العراقية) تحثنا جميعاً دون استثناء على المشاركة في محرقة الحرب حباً (1980- 1988) الموت حباً، لهذا راجت الروايات التي تتغنى بالحرب والحب معاً، لنكتشف أنها فكرة مسروقة من الأدب الشيوعي والألماني والأميركي اللاتيني.. إلخ الذي نهل من ذاك التصور،
 ونتعجب كيف لم نلتفت لهذا الجمع بين الحرب والحب في الرواية كما في الحياة العراقية؟ وكأننا من أصحاب الكهف استيقظنا بعد وهن على عالم بشع، هنا مثلت أمامنا رواية ريمارك (للحب وقت وللموت وقت) كعينة في المشي للحرب من أجل الحب واندهشنا كيف يحدث هذا الجمع الغرائبي، ولم نفطن أننا بذلك نمهد الطريق لصناعة طاغية؟ وكم ضحكنا بعد ذلك في تعرفنا على رواية جورج أورويل (1984) ورواية (السيد الرئيس) لاستورياس، ورواية (وداعاً للسلاح) لأرنست همنغواي.. إلخ الرواية التي تتعطش للجمع بين صخب الحرب وعنف الحب، مع أنَّ الخاسر هو موت الأدب، من هنا نحن صنعنا طغاتنا بأيدينا ومشينا قدامهم للحرب تاركين محبوباتنا يعانقن الترمل والعويل، ثم لما جعنا انقلبنا على أعقابنا، فأكلنا الطغاة، تبدأ صناعة الطاغية بالانقلاب على القيم المؤلهة له، فنحن توارثناها (عادة تأليه الزعماء) من تراث قبائلنا وأجدادنا، وارتباط الطغاة لدينا بالحرب والحب وموت الأدب عادة جمعية لا واعية اندست في وهم ثوابتنا (وهم الثوابت عادل مصطفى) فأول صورة أخذت لهذه الفكرة من تاريخ ما قبل الإسلام في (مملكة كندة) في العهد الجاهلي التي سقطت نتيجة النزاعات القبلية ولعل كتاب نجمة سيوطي (الألوهية والقبائل) يعرفنا على فكرة كيف نصع الطغاة بأيدينا؟ لقد كان الشاعر الجاهلي أمرؤ القيس وريث مملكة كندة بعد السقوط، فتحول من مغامرات الحب نحو مقامرات الحرب، لكنه لم يحقق سوى موت الشعر (موت الأدب) نجمة سيوطي تبرر العلاقة بين فكرة الإلوهية وثقافة القبائل قبل الإسلام، بأن هذه القبائل صنعت آلهتها بنفسها، فقد عرف العرب بممارستهم الوثنية، واتخذت كل قبيلة لها إلها، نحن نجيد صناعة الطغاة وتزويق أقنعتهم، لهذا كان موت الطغاة أمراً ميسوراً، موريس دوفرجيه في كتابه (في الدكتاتورية) 1965 ذكر حادثة أنَّ أحد الطغاة زار صديقه الطاغية الآخر، وكانا يتجولان في حديقة الطاغية الأول، فسأله هذا بترقب: كيف تسوس الناس؟ فلم يتردد الطاغية الزائر من سل سيفه قاطعاً رؤوس الأزهار التي أمامه مزمجراً: هكذا! هذا هم الطغاة لا يفكرون بعواقب الأمور، لأنَّ هناك من يتحمل النتائج، موريس دوفرجيه، رسم لشكل نظام الطاغية مبرراً في عدم كبح جماحه من قبل الطبقات الاجتماعية الواعية، فالطغاة لا يخرجون من فراغ، ولعل ألفين كرنان في ( موت الأدب) قد أدرك في مقدمة الكتاب، أنَّ موت الأدب يعني غياب اهتمامنا بطبيعة البيئة التي تنعشه، فإذا نظرنا من داخل الأدب نفسه وجدنا القيم الأدبية الرومانتيكية التقليدية مثلها مثل القيم الحديثة فقد انقلبت تماماً، فالمؤلف الذي كان يقال عنه إنَّ خياله المبدع هو مصدر الأدب تم الإعلان عن موته، موت المؤلف كما يتصوره ألفين كرنان في الأدب هو يتكرر عندنا حيث تتساقط المشكلات علينا كتساقط المطر الغزير، لأنَّ قبائلنا تعبد اللات والعزى، ومناة وسواع، أي إننا نعاني من مشكلات الغرباء التي هي مشكلات أخلاقية، تيري إيغلتون في كتابه (مشكلات مع الغرباء دراسة في فلسفة الأخلاق) يعين إلحاح النظام الخيالي، على أنه تأثر بطور المرآة التي ابتكرها جاك لاكان، بوصفها لحظة نمو الطفل الصغير يسر فيها وهو يتأمل صورته في المرآة من التوافق السحري بين حركاته وحركاته المقابلة في المرآة، كي يكون (بتشديد الواو) فكرة عن النظام الذي نعيشه مع الغرباء الذين نصورهم في مرآة وعينا وفلسفتنا، وهي مشكلة تبدو بالمعنى الأخلاقي، تيري إيغلتون يتحدث من كونه أحد المفكرين اليساريين في العالم المعاصر الذي عانى من ثقل غربة الآخرين جراء نتاجهم الثقافي والفلسفي الذي شكل تأزماً أخلاقياً، نحن ندرك ظاهرة الغرباء مع وعينا في صناعة طغاة على هيأة آلهة، ونمد لهم من النظام الخيالي حالة تشبه نظرية المرآة اللاكانية، لكن هنا نقطة واحدة نفتقدها في تاريخ تشكيل طغاتنا، هي أننا لا نملك الحرية، ولا نفهمها، وليس لنا إرادة محددة؟ في كتاب (الحرية الإنسانية والعلم) ليمنى طريف الخولي ما تريد أن تؤكده، في موضوعة نظريات الحرية في العالم اللاحتمي (من حيث أنَّ أعقد مشكلة في الفلسفة العلمية هي اللاحتمية التي تواجهنا في وعي الحرية) ولكن، من أين وكيف نجيء بمثل هذه اللاحتمية؟ إنه الأمل المفقود في العلم الحديث الكلاسيكي أو النيوتوني الذي تحول إلى واقع أنطولوجي في العلم المعاصر، هو يجعلنا نتخاذل، لأنَّ المقارنة بين الحريات الإنسانية والعالم اللاحتمي تقتضي الإرادة، الإرادة الحرة (الإرادة الحرة توماس بينك) التي لا تخيب مزاعمنا في أنَّ صناعة الطغاة لا تعود وبالاً علينا، لأنَّ الإرادة الحرة تبدو في نظر بينك عبارة عن مشكلة، بسبب أنَّ كل ما نتوقعه طبيعياً بالنسبة لنا هو ليس كذلك، ومادام العالم الذي نتصوره هو مجرد سوء فهم، أو فهم الفهم، لأننا نقوم بتأويل كل ما يمت بصلة لعالمنا الذي نتخيله وفق متطلبات وعينا، فإنَّ صناعة الطغاة ممكنة، عن طريق إعادة استخدام الماضي القديم بدلالته الحديثة، لهذا نبقى نجتر ثوابتنا في وهم الثوابت، أي نقدم الحرب على الحب، ونخلق طاغية حياً، ثم نقتله ميتاً جسدياً بلا روح، ثم نعيد إنتاجه رمزاً، شكلاً من أشكال آلهة القبائل، يطل علينا كـ(أخ أكبر) مثل ما رسمه جورج أورويل، من كل وسائل التواصل الاجتماعي حاملاً كل حماقات آلهة القبائل، بإلوهية مرحة وتصدح أنشودة إحنه مشينه للحرب ها ههه هاً.