زائر يُوقظ الموتى.. خارج أسوار الغربة

ثقافة 2024/03/13
...

علي طعمة الهاشمي*



(زائر يُوقظ الموتى.. بغداد في سبع زيارات) هوعنوان الكتاب الجديد للكاتب والفنان المسرحي العراقي المغترب أكثر من ربع قرن في مدينة أمستردام (صالح حسن فارس). الكتاب عبارة عن مقالات نُشرت في الصحف العراقية والعربية ثم جمعها في كتاب، وصدر عن دار “السامر” الذي يقع في110 صفحات من القطع المتوسط، صورة الغلاف للفنانة الألمانية (ساتفينا رود).

يتحدث الكتاب عن مشاهدات “صالح” هنا وهناك، وحاول أن يروي بعضاً مما شاهدته، أو سمعه، ثم كتبه بطريقة سلسلة عفوية تلقائية وصادقة، نابعة من روحه، أنه سرد ممتع يشبه السهل الممتنع، خال من الفذكلة اللغوية الجامدة التي تبعد القارئ عن النص، لم يتكلف الكاتب بسرده للحكايات، ولم يتصنَّع في ذلك. كما يقول:(لا أتكلف بالكتابة عن الرحم الذي أنجبني، ٍاكتب ما يحضر وينسكبُ بعض ما عشته في العراق، وسأحاولُ أن أرسم ملامح مدينتي بغداد قبل وبعد الحرب بعين فنان).

 حيث جاء في مقدمة الكتاب:(..أسئلة كثيرة ترنُّ في بذاكرتي وأنا أفكرُ بتدوينها عن زياراتي السبع لمسقط رأسي العراق، الذي غادرته قبل ربع قرن من الآن. سبع زيارات، سبع حكايات، لكل حكاية طعم خاص..). 

سحرني كتاب “صالح حسن فارس” في تدوينه ما شاهد وما سمع في بغداد وأمستردام التي يقيم فيها الآن، متذكراً أيام طفولته، أحلامه المسروقه في زمن النظام البائد،  كما كان يلتقط المشاهد بعين فنان في البيت ،الشارع ،الطائرة والمقبرة،  ويكتبها في شكل أدبي يقترب من السرد الروائي أو السيرة الذاتية والفنية لفنان عاش في بلده وغادره مجبراً إلى هولندا الأراضي المنخفضة، كما حاول الكاتب هنا رسم ملامح مدينته بالكلمات قبل وبعد الحرب، وسجل بعض الوقائع اليومية التي مر بها وعايشها خلال زياراته السبع لمدينته بغداد .   

يقول فارس:(كانت فكرة الكتاب موجودة بداخلي منذ وقت طويل، كأنه يبني نفسه مثل طفل في بطن أمه، تأخرت عن نشره بسبب كورونا وانشغالاتي اليومية والعائلية، والعمل).  

كتب مخاوفه ومشاعره وأحاسيسه كأنها صرخة مدوية بوجه الحرب والطائفية التي مر بها العراق، كأنه زائر يُوقظ الموتى العابرين. نص يحمل في طيّاته رغبة حميمية لوطن عاش فيه، ولا يغفل الكاتب شيئاً صادفه، كان “صالح” في نصه هذا زائر خفيف الظل، صادقاً أنيقاً وجريئاً في كل شيء، ولهذا أنتج لنا عملاً أدبياً وفنياً بلغة شعرية شفافة بديعة لها لوناً مميزاً ورائحة تشمّها أثناء القراءة، حيث جعل اللغة وسيطاً بين عالمين متغايرين، بين ألهنا وألهناك، كما راهن في نصه على لعبة جديدة، هي لعبة الكتابة السلسة واسترجاع الذكريات.

أما عن عنون الكتاب فأنا شخصياً لا أحب العناوين المتكررة والمستهلكة، أُحب العنوان أن يكون جملة مفيدة، أو سؤال، عبارة، أو دهشه، مثل العنوانين: “إنهم يقتلون الجياد أليس كذلك، المياه كلها بلون الغرق”. 

في كل زيارة حاول أن يفتح الباب على مصراعيه ويواجه الريح العاتية، ليصرخ بصوت مبحوح، حائراً مذهولاً بين ألهنا وألهناك،  كنتُ أقرأ نصه بدون ملل ، قرأت كثيراً وخرجت منها بسهولة، لكني اليوم لم استطع الخروج من كتاب ( زائر يوقظ الموتى بسهولة،  ما زالت آثار الكتاب عالقة في ذهني، شعرتُ بمتعة كبيرة ، وأدخلني الكتاب في مناطق زمنية لها ارتباط وثيق بتفاصيل حياة رتيبة  ربما عشتها أنا، الكتاب مليء بأفكار مكسوة بصور حقيقية وصادقة.

كان “صالح” يبوح بأسراره دونما حرج، وغير مكترث بما خسره أو راح يكسبه، بل أراد أن ينشئ جنساً أدبياً جديداً ليست له تسمية، نظراً لتعدد ألوانه التي تتداخل فيه السرد الروائي والنص المفتوح، القصة، الشعر، السيرة والذكريات، أنه أشبه بوليمة شهية ذات أطباق لذيذة لا يمكن للذهن أن ينسى مذاقها، أقول أنها  لا ريب  تجربة إبداعية لا أحد يستطيع الخوض في غمارها إلا من اتخذ الصدق في البوح والسرد جوازاً للدخول إلى أرض قلوبنا الحالمة بزخات أدب يبلل ريق أيامنا المتخمة بالعطش.

جاء في الكتاب: ( متى نذهب إلى بغداد؟ أريد أن أرى الشمس ، وأزور المدينة التي تروي لي يومياً عنها قصصاً وحكايات مدهشة قبل النوم،  وعن مغامراتك فيها. كم من الهدايا علي أن أخذ إلى الأطفال ؟ هذا ما قلته لابنتي ذات الخمس سنوات، والتي ولدت في مدينة أمستردام ، ولم تزر بغداد بعد ، غداً سنذهب إلى بغداد فنامت)..

ويختتم زيارته الأخيرة السابعة لبغداد يقول:( وصلنا البيت ومعنا حقائب كثيرة، هدايا وذكريات. دخلتُ الحمام أغسل جسدي من التعب، وأفكر بالعراق وأهلي، وبما قاله لي أبن عمي ، أن أرجع للعراق، وأستقر فيه. أخذتُ أقلِّب في رأسي وجوه أقاربي وأصدقائي الذين التقيتهم. ونحن نغادر بغداد، ثمة بهجة وجمال، وسعادة ولحظات بديعة من الفرح كانت مع الأهل والأقارب والأصدقاء.

هنا تنتهي رحلتي وعدنا أدراجنا من حيث أتينا إلى المدينة الساحرة أمستردام لأكمل كتابي (زائر يُوقظ الموتى)..

كاتب عراقي *