التكييف الجمالي للفضاء الاجتماعي في {لعنة بيضاء}

ثقافة 2024/03/13
...

د. سعد عزيز عبد الصاحب



في استهداف ظواهر الدستوبيا (المدينة الفاسدة)، يحاول المخرج المجتهد (محمد حسين حبيب)، أن يخلق له أنموذجا إبداعيا ونسقا جماليا يتكئ على علل ومشكلات اجتماعية عضوية تمور في جسد المجتمع العراقي، محاولا نقدها والتعريض بها، فبعد مسرحية (الراديو) يقدم مسرحية (لعنة بيضاء)، التي مثلتها فرقة نقابة الفنانين فرع بابل، وهي من تأليف (أحمد عباس) عن اقتباسه ومسرحته لقصة قصيرة للكاتب الإيطالي (ايتاليو كالفينو) بعنوان (شاة سوداء). عرضت المسرحية على قاعة الشهيد حمزة نوري للألعاب الرياضية المغلقة في مدينة الحلة، وبمعالجة درامية تحكي قصة زائر جديد يسكن أحد بيوت المدينة، ويخلق فيها شكلا جديدا من العلاقات التي يسودها الصدق والفضيلة، بما يتعارض مع سلوك أهل المدينة القائم على الفساد (السرقة) والتزوير والحيلة في تعاملاتهم اليومية، فيصبح صاحب الدار (الرجل الأمين) النغمة النشاز الوحيدة التي تعزف في فضاء المدينة الدستوبي بكل علاقاته وأجوائه السلبية. يرفض الساكن الجديد تطبيق وصايا المختار ورجل النظام التي تقضي بالتفاعل مع الأنظمة المقررة سلفا في المدينة، تلك الأنظمة والسياقات المبنية على الفساد بكل مفاصلها الحياتية، لدى الطبيب في عيادته والأستاذ الجامعي في جامعته والبائع في سوقه وغيرهم، حيث تفشي الرشوة والسرقة، فالكل يسرق بعضه بعضا والجميع يتحولون إلى زوار ليليين ينهون جرائمهم عند صياح الديك بعد أن يتبادلوا فعل السرقة. يختل ويهتز هذا التوازن الاجتماعي والطبقي بمجيء الرجل الأمين إلى المدينة، الذي لا يغادر بيته وكتابه، لذا فبيته لا ُيسرق، هو يُجبر على ممارسة السرقة ويوضع أمام رهان خاسر بالنسبة إليه: إما ممارسة السرقة والإذعان للنظام أو الموت، فيقرر مغادرة بيته والوقوف على الجسر شاخصا وشاهدا على هذه المهزلة البشرية، فيصدر الأمر بحرقه هو وكتبه، إلا أن فعل الحرق يصيب جميع أفراد المدينة، فالجميع آكل للحرام. حاول المخرج (حبيب) أن ينطلق في قراءته الإخراجية من مفردة البيت / الهيكل وتشظيتها .. البيت الذي تُرى أحشاؤه، البيت المخترق أخلاقيا وقيميا، وكل قطعة هيكل حديدي تسكن داخلها سلة مهملات فيها حصى صغيرة. جاءت المفردة المركزية (الهيكل) غزيرة في طاقتها الدلالية والإيحائية، وشكلت تشكيلات جمالية مع الممثلين عمقت من الأبعاد الدلالية والتأويلية للعرض، وأنتجت معاني عديدة أسهمت في استنطاق ثيم النص الدرامي، وأعطت انسيابية للإيقاع البصري الذي تدفق بتوليدات هذه المفردة ودلالاتها، بمدلولات (الجنابر) في السوق و(السونار) في عيادة الطبيب والتوابيت المحمولة وقضبان السجن، إضافة لمدلولها المركزي (البيت)، ولا يمكن فصل العلاقة بين الفضاء البصري للمكان والتشكيلات السينوغرافية للمفردات، إذ إن اختيار الفضاء (قاعة الألعاب الرياضية) خارج العلبة الإيطالية وممكناتها المحدودة على مسارح محافظة بابل، أعطى عمقا للمجال اللعبي، مما ولدَ بعدا بصريا ثالثا للصورة الجمالية للعرض انتهى بالسلم الخلفي الممثل للجسر، وشاشة الداتا شو التي وظفت إمكانياتها التقنية بطريقة مبتكرة،  إذ استعمل المخرج البث الحي للمسرحية على الشاشة الخلفية، مما أعطى دلالة الهنا والآن، وأن ما يبثه العرض من رسائل هي رسائل ساخنة ويومية لا يمكن تأجيلها، الهدف منها إرشادي توعوي في أن لا نركن للسرقة والفساد بين بعضنا، إضافة لمشهد الحريق في نهاية المسرحية، بالفعل كان مشهدا جليلا ومعبرا في محتواه الجمالي والفكري، ذكرني شخصيا بجماليات مسرح قاسم محمد الصوفية في أبي حيان التوحيدي وحرق كتبه، ساهمت المفردة الرئيسة (الهيكل) في إنشاء تنوع في الإيقاعين السمعي والبصري، إضافة إلى الحصى وصوت سقوطه على الأرض، وصوت المفاتيح ناهيك، عن روعة الأغاني الصوفية التي هي من مصادر إيرانية على ما يبدو . احتكم العرض لهارموني بصري وإيقاعي ووحدة جلية في الشكل، من خلال الأزياء وألوانها بثنائية الأبيض والأسود وتجلياتها في ملابس الممثلين الرسمية، كأنهم في حفل فني أو حفلة موسيقية يلبسون أزياء موحدة، مما أعطى دلالة أن السلطة الرسمية مساهمة في الفساد ومحتفلة به، ولتمييز المختار والرجل الأمين ارتديا ملابس تقليدية. أسهمت الحركات (الكريوغرافية) والرقصات المتناسقة في إضفاء وتأكيد هذه الوحدة، على الرغم من إقحام الرقصة الافتتاحية بحركات (رياضية) لا علاقة لها بمضمون العرض، في حين جاءت الرقصة الثانية مع سلة المهملات صريحة في معناها المنسجم مع ثيمة العرض، أما على صعيد الأداء التمثيلي فيمكن أن نفرد جنبة طويلة في تفسيره وشرحه، إلا أن مقتضى الحال يمنعنا من ذلك، إذ كان أداء الممثل الرائد (أحمد عباس) كما عهدناه في تشخيص (الرجل الأمين)، لا سيما أن الشخصية هي تجسيد حي لفواعل (أحمد عباس) وعصاميته وصدقه في الحياة كما عرفناه، متبئرا مع ذاته وما يلقي من ألفاظ واضحة ومسموعة خالية من الأخطاء النحوية، متبنيا حقيقيا لمثل الصدق والخير والعدل ، ولا يقل أداء الممثل (علي حسن علوان)  لشخصية رجل النظام، مسفرا عن قوة جهورية لافتة في صوته ووضوح ألفاظه، وتحولاته الجسدية المحسوبة بين الغلظة واللين، وكذلك الممثل (علي التويجري ) الذي كان حلقة الوصل بين الرجل الأمين والجوقة المسرحية في جودة تبنيه لفكرة الشر المستحكم في الضمير، وقدرته على تغذيتها بتعابير وجهه المعبرة وضبطه لإيقاع شخصيته ، وقد لفت انتباهي بشدة أداء الممثلين (فقدان طاهر) و (ظفار فلاح) في أدائهما لشخصيتي الطبيب والمشتري في ضوء استرخائهما وانغمارهما التقمصي اللافت، مع ضبط (الكاركتر) الأدائي المصنوع لهما، وإضفاء اللون الكوميدي الساخر على أدائهما، وجاء أداء الممثل (علاء القرغولي) باستقامته المعبرة ومشيته الوئيدة، مثالا وتشخيصا دقيقا للقناع الذي يلبسه الأكاديمي المرتشي، والممثل (مخلد الجبوري) بدور المختار كان قويا جريئا في حضوره على خشبة المسرح، وجسد فساد المجتمع من خلال فساد مرؤوسيه، وليس بعيدا عن الإبداع جاءت الجوقة الكريوغرافية من الراقصين الشباب بانسجامها الإيقاعي السمعي والبصري المتماهي مع الإيقاع الدرامي للعرض .