سردنة الوهم.. المرجع والمتخيّل

ثقافة 2024/03/14
...

  محمد صابر عبيد

يشكل الوهم فضاءً شاسعاً في مساحة الاشتغال الأدبيّ عموماً والسردي القصصيّ منه على نحو خاصّ، وهو بلا شك يضمّ بين طيّاته كل فعاليات الإيهام التي تشتغل عليها المتون الأدبية عموماً منذ فجر تاريخها، وتعالق الوهم “الموضوعاتيّ” مع الإيهام “الفضائيّ” في نصّ قصصيّ واحد يجعل من آليّات السرد ذات صلة بالتداخل والتمثيل والتحويل، على النحو الذي يسمح لآلة السرد في تشكيل رؤية الوهم وسردنتها. ففي قصة «بداية ونهاية» لهدية حسين إحدى قصص المجموعة الموسومة بـ «إحساس مختلف» ثمة تفعيل عميق لحالة وهم تعيشها الشخصية الأنثوية الأساسية في القصة، وإذا ما عاينا عنوان المجموعة «إحساس مختلف» لوجدنا أن علامة الوهم حاضرة فيه من جهة بناء صورة لإحساس عابر وتجاوز وخارق للمألوف والمتداول.
أما عنوان القصة “بداية ونهاية” فهو لا يبتعد كثيراً في سياق استحضار هذا الفضاء عن معنى هذه الرؤية الوهمية الإيهامية، فالمتعاطفان المتضادّان المنكّران “بداية/ نهاية” مفتوحان على مضمون دلاليّ يفتح أفقاً سيميائياً مشبعاً بالاحتمال بينهما، وهو على هذا النحو ينتمي إلى عالم الوهم بين حدّين منكّرين يفصل بينهما فقط حرف عطف.
ثمّة تصدير تبدأ به القصص يحيل مباشرة على عنوان المجموعة ونصّه: “كلانا على حقّ لأننا ننظر إلى اللوحة بإحساس مختلف”.
يعمل التصدير على نسق ثنائيّ يتلاءم مع نسق العنونة ويتفاعل معه، فـ “كلانا” يوازي “بداية ونهاية”، وإذا ما سعينا إلى الغوص في باطنية التشكيل المفهوميّ يمكن أن نصل إلى نتيجة مقترحة تتمثّل في أنّ “كلانا” تعني بحسب حضور التتالي الضميريّ: “أنا وأنت”، بمعنى أنّ الراوي الأنثى “أنا” يعادل “بداية” والمروي له الذكوريّ المقترح في ضمير المثنّى يعادل “نهاية”.
يمكن تطبيق هذا التوصّل التأويلي على طبقات المتن القصصيّ كلّها داخل علائقية المرجع بالمتخيّل وتحدّياتها النصية، فضلاً عن أنّ فكرة التوازي والتساوي في جملة “كلانا على حقّ” ترتبط بالتضادّ الحسّي في تلقّي “اللوحة” على اختلاف الإحساس، وهو ما يؤسس لإشكاليّة تستجيب أساساً لحالة الوهم التي يتبنّاها الفعل السرديّ في القصة، من حيث اختلاف الإحساس وتضادّ البداية مع النهاية من حيث الفروض والنتائج.
تبدأ القصة بداية سردية مشحونة بالحادثة القصصية على صعيد الحراك والإيقاع السرديين، ومرتهنة بالشخصية والزمن والمكان على نحو غزير وديناميّ، ويمكن معاينة عتبة الاستهلال هنا بوصفها عتبة سردية عملية لا تعنى بالمقدمات والاستعدادات، بقدر عنايتها بالحادثة القصصية في جوهرها الحكائيّ وهي تتمثّل الرؤية والمقولة مباشرة، وتسير في السبيل نحو استحضار طاقة عناصرها بقوّة الحكي والقصّ: “برغم أنني حجزتُ مقعدين في السيارة المتّجهة من بغداد إلى عمّان، إلا أنني كنت بمفردي، أعرف ذلك ومتأكدة منه، فقد أردت أن لا يضايقني أحد وأنا أقطع الطريق الصحراويّ الطويل، وأن أجنّب نفسي أيّة إزعاجات قد تحدث”.
فضاء الوحدة المبتغى يشرع بالحضور منذ استهلال القصة وفاتحتها بقوّة حضور الأنا الساردة المهيمنة (أنني حجزتُ/ أنني كنت بمفردي/ أعرف/ متأكدة/ أردت/ لا يضايقني/ أنا أقطع الطريق/ أجنّب نفسي)، وهذا الضغط الحضوريّ لها قد لا يسمح كثيراً لحيوات السرد أن تأخذ فرصتها للتمظهر، وهو ما يجعل الحكي مشدوداً إلى بؤرة معيّنة ضيّقة نسبياً على صعيد الفضاء القصصيّ، ولاسيما في منطقة الفاتحة النصية القصصية وهي منطقة تنطوي على أهمية بالغة في سياق التركيز على الشخصية وعلاقاتها المكانية.
الطبقة الثانية من طبقات النصّ “بعد طبقة الاستهلال” ترتهن بالزمن الحكائيّ المرتبط بالحادثة ارتباطاً وثيقاً بحكم حساسية المكان المتحوّل “السيارة”، وتتضمن تطوراً سردياً بحصول ما يشبه المفارقة في سياق العرض التقليديّ لحكاية الرحلة المرتبطة باستقلالية الأنا الراوية بعيداً عن مضايقة الآخر، إذ ثمّة حدث جانبيّ كسرَ هذا النسق وأحدث مساراً جديداً في هيكل الحدث، وحوّل الاهتمام العام إلى نوع من الاهتمام الخاصّ: “بعد ما يقارب الخمس ساعات غفوت، وعندما صحوت وجدت رجلاً كبير السن يجلس جواري، لم أتمعّن في وجهه فقد أذهلتني المفاجأة، وكدتُ أصرخُ بالسائق: كيف تفعل هذا وقد نقدتك المبلغ مضاعفاً؟ أو على الأقل أقول: كان عليك أن تستأذن مني، إلا أنّ الغيظ أسكتني للحظات، أردتُ أن أستردّ هدوئي لكي لا أدخل في شجار لا أدري إلى أين سيقودني، ثم تساءلت: من أين صعد هذا الرجل وليس ثمّة ركّاب في الطريق الصحراويّ الشاسع؟”.
الكينونة السردية لهذه الطبقة كينونة مكتنزة تلتفّ على بعضها وتكوّن حكاية شبه مستقلّة، إذ تحتشد فيها كلّ عناصر القصّ المطلوبة ولاسيّما المفاجأة السردية التي تثير الشخصية وتأزّمها، في سياق تفعيل طاقة الصراع الدرامية بين الشخصية الأنثوية الساردة “الراوي القصصيّ الذاتيّ”، والرجل الكبير السن الذي جلس إلى جانبها من دون إرادتها، والسائق الذي سمح لهذا الرجل على الجلوس في مقعد مدفوع الثمن، وكل ما ينطوي عليه هذا الفضاء السرديّ الجديد في طبقة القصة من حساسية تنتج شبكة أسئلة تعمّق دراما التشكيل السرديّ في القصة، وهو ما دفع الشخصية كي تخضع لنوع من التحوّل في حساسية التفاعل مع المحيط.
تستمر طبقات القصة التالية بالانتقال والتحول والترادف وصولاً إلى عتبة الخاتمة القصصية التي تنطوي على رفع وتيرة الوهم إلى أقصى درجاتها حين يتراءى للشخصية أنّ نسخة الرواية “بداية ونهاية” هي نسختها الضائعة، وبأنّ الرجل كبير السن الذي جلس على المقعد الذي دفعت ثمنه سلفاً هو والدها الغائب، بدلالة حضور الإهداء الذي كتبه لها حين أهداها النسخة في الماضي “إذا ضاعت منك البداية فحافظي على النهاية”، وتنتهي القصة وهي في أعلى مراحل التباسها السرديّ بعد أن تنفصل الشخصية عن محيط الزمن السرديّ وتنتمي إلى زمن الذاكرة، ويختلط وعي الحالة لدى الشخصية بين المرجع والمتخيّل، وبين “بداية ونهاية”، وبين ترك الوطن والدخول في الغربة.