طالب عبد العزيز
عندما رجع صاحبُ بيدرو بارامو، خوان رولفو بعد ثلاثين سنة الى القرية التي عاش فيها كان الناسُ قد رحلوا عنها، هجروها، فخطرَ في بال أحدهم زراعة شوارعها باشجار البلوط، لكن الاشجارُ ظلت تنوحُ، وتصفرُ في الليل، مثلما تصفرُ الريحُ! أهو السكون الذي يتعهد الارتباك فيك، أهيَ المعاول التي تنفرد وإياها بالصمت والشكوى؟ أيها الشاعرُ خذ طريقك إلى الليلِ إن كنت تبحث عن النهار.. الى الأشجار تلك، إن كنتَ لا تعرف من الألم أبعدَ من وقع الفؤوس. بين العربات ثمةَ عربة يسكنها شاعرٌ دائماً، يولد في الخوف، وفي المباهج أيضاً. قلت للمقعد: طريق موحش واحد يفصلنا. لن تمشيه أنت، وأنا لا أتردد في الوقوفِ عليه.
يدي مليئةٌ بالرياح، ويدك فارغةٌ، كلّه بنفسجيٌّ هذا الذي تسألني عنه في الغياب، أنا في الحفرة التي لا تُردم بالنسيان، وفي الهُبوب الذي سيستمرُ طويلاً، أنصتُ لكَ أنتَ وحدكَ، يا مَن بظفرك تحكُّ جلدَ الأرض، هلّا تركتها ترتعدُ، سيدمي بطنَها هذا النواحُ، الذي لا تُلجمه الأنهار.
لا تصلحْ شأنَ قميصِك، لم تعد الألوانُ منقذةً، كتفك تذبلُ، وعنقك مائلٌ، ومقلتاك سائلتان.
ليست الدُّفلى، ولا الاكاسيا، بكلِّ إصفرارها تحت الشمس، ولا الفسائلُ السبعُ التي عند الباب.. يوحشك ما لا تقوى على رؤيته رطباً، منسرحاً من حافة السرير، فخذها، إنْ شئتَ، أو إدِّخرها ما حييتَ اللحظةَ التي لن تتكررَ في الشُّرفة أبداً، وإنْ طاولتِ السماءَ، وإنْ أضاؤوا فوانيسَها الالف.
«من منّا لم يحلمْ بمعجزةِ نثرٍ شعريٍّ؟ موقّعِ وخالٍ من الوزن والقافية، شديدِ المطاوعةِ، وبالغِ التناظر كيْ يتكيَّفَ مع تياراتِ النَّفس الوجدانيّة واهتزازاتِ الوعي؟» ذلك ما كتبه بودلير الى صديقه الشاعر، فأكتبُ أنتَ ما يجعلُ الأريكةَ خضراءَ الى الابد، هذهِ الآلهةُ حبلتْ من الحياةِ نكداً.
نحنُ نعرفُ الطريق التي نقطعها بقدمين اثنتين، لكنْ، ما المسافة التي نقطعها بقدمٍ واحدة؟ ومِنْ الهواءِ في خزانة الثياب نستدلُّ على الفصول، لكنْ، ما طعمُ الهواء الذي نتنفسه في حضرة من نحبُّ ونهوى؟
وما شكلُ قبّرة النأيِّ في الليل؟ نحن الذين لا نمتُّ بصلةٍ الى أحدٍ، نجيئُ من خطأ على الحائط، ونذهبُ في اصطفاق بابٍ بضلفتين. تفلتنا يدُ المطر، فنختبئُ في ذرّة رمل. كلُّ الذين مرّوا بخيولهم تجنبوا هيولى الترابِ ذاك، ولما جاءنا السَّيل من الشرق، ومثله ذاك الذي جاءنا من الجنوب أوينا الى فسيل نعرفه، دخلناه، فكان لنا ما اردنا، وكان له الذي لم يكن. اليومَ نتفحصُ قروحَ أقدامنا، الطحابُ تجفُّ، وتستعادُ رؤيةُ الثآليل، أمّا الغربة فهواء لزجٌ في الركبتين. لا أعرفُ من قال:» أنْ تكون شاعراً هو أنْ تكون لديك شهيةٌ لقلقٍ ما».
أيها السيدُ الكبيرُ عليكَ أنْ تتعلمَ المحبّة! وحريٌّ بكَ أنْ تدخلَ من النافذة، قبل أنْ تفكِّر برائحة الذلِّ التي تُمسك بعتبات منازلنا، السيدُ الكبيرُ لا يطرقُ البابَ، هو يقشطُ الزُّجاجَ حسبْ، ويضيءُ، لا تسألني: كيف؟
أنا أيضاً اقشطُ الزَّجاجَ أحياناً. إيّاك أنْ تبتدأ، أنا لا انتهي ابداً ! اليدُ تقترحُ شكلَ من تعانقُه، وعَتَلَةُ الصَّفحِ لا تستجيبُ، فالقليلُ من الحبِّ لا يعني أنَّ زهرةً ما تتفتحُ، والكثيرُ من السنديان لا يعني أنَّ عاصفةً ما تتجهزُ للهبوب، وقليلون، قليلون جدّاً، أولئكَ الذين يتركون ثيابَ حبيباتِهم على حافة السرير.. أنتَ تشير الى الضَّمادة وأنا جرحٌ يتعافى بالعناق، فلا تحدِّثني عن الطقس، إذا كان لديك ما تهبهُ من القبل. العِلّكةُ بطعم النعناع، ورائحةُ ماءِ القلونيا تضوعُ من قميصي في الفجر.
لا تستفزكَ البقعُ الحُمرُ بسروالي، كلُّ ثيابِنا سوداءُ في الليل، على الكومدينو. أنتَ لا تفتح النافذة إلّا إذا كان لديك ما تخشى عليه في العَتَمة، أمّا أنا فلا أعيبُ على الطاولةِ ما ظلَّ هامداً من دهانها، وسأظلُّ أنتظرُ السيّدَ الكبيرَ، الذي لا يعني انتظاري عنده شيئاً، وسيكون لي القليلُ من الوقت لأخبرهم بأنكَ ما زلت تحبّني. منذ أمدٍ بعيد وأنا أحملُ حياتي على محمل الجدِّ، فلا أجيئوكَ إلا مفجوعاً بأملٍ، أو مطعونا بغياب.
عندما بكيتُ كان الطفلُ الذي بروحي يشيرُ الى كيس الحلوى، وعندما انتهيتُ الى الحديقة كانَ الإوزُّ كلُّه نائماً. لا يستودعُ السَّيدُ الاكبرُ اسراراً هو يرشدُ القنطرةَ الى نصفِ النَّهر.