د. طه جزاع
قيل الكثير عن الاستشراق والمستشرقين، وتباينت الآراء بين مستنكر متطرف يشكك بكل مستشرق، بغض النظر عما قام به من خدمات وتحقيقات وترجمات لكتب التراث العربي الإسلامي، وبين منصف ينظر بإيجابية إلى عدد من المستشرقين، الذين كان عملهم خالصاً للعلم، ولم يكونوا عملاء لمخابرات دولهم وفي خدمة اطماعها الاستعمارية تحت غطاء البحث العلمي، كما كان يفعل الغالبية العظمى من المستشرقين الأوروبيين، خاصة البريطانيين. غير أن ظلال الشك تكاد تتضاءل تجاه المستشرق البريطاني الكبير آرثر جون آربري " 1905-1969 " الذي زار البلاد العربية، وعمل في الجامعة المصرية بداية الثلاثينيات من القرن الفائت، أنجز خلالها كتاب "المواقف والمخاطبات" للنفَّري، وأصبح رئيساً لقسم الدراسات العربية والإسلامية في جامعة كمبردج أفضل العلاقات مع تلامذته العرب والعراقيين من أمثال مدني صالح وحسام الآلوسي وكامل الشيبي وناجي التكريتي وعرفان عبد الحميد، وأشرف على العديد من الرسائل والأطاريح في الفلسفة الإسلامية والتصوف، فضلاً عن تحقيقاته وترجماته، ومنها ترجمته التفسيرية للقرآن الكريم.
يصفه عبد الرحمن بدوي في موسوعته عن المستشرقين بالقول " كان آربري هادئ الطبع، صافي الضمير، يحبه كل من عرفه. وكان مرهف الإحساس الشعري، رشيق الأسلوب، واسع الإطلاع على كل ما يتصل باهتماماته من أبحاث، أشبه ما يكون بأستاذه نيكلسون : إنتاجاً وأخلاقاً وذوقاً أدبياً وجمال أسلوب"، وهو بالطبع يعني في ذلك ضمن ما يعنيه ترجمة آربري للقرآن الكريم التي يعدها بدوي من أجلّ أعمال الاستشراق، ويرى أنها تعطي المعنى في أسلوب رقيق جميل، وهي أجمل في القراءة من أية ترجمة أخرى للقرآن إلى أية لغة. عدا ذلك فإن لآربري الكثير من الأعمال في الأدب العربي والفارسي والهندي، اشهرها ترجمته لمسرحية أحمد شوقي " مجنون ليلى " وخمسون قصيدة لحافظ الشيرازي، وعدد من قصائد محمد اقبال، تضاف إلى أعماله في التصوف الإسلامي ومنها تكملة مخطوطة كتاب اللُّمَع لأبي نصر السراج الذي حققه أستاذه رينولد نيكلسون. لكن من بين كل الآثار التي حققها آربري يبقى كتاب التَّوهُّم للحارث بن أسد المحاسبي، واحداً من أروع الأعمال الصوفية المُبتكرة المُتخيلة، فالتَّوهُّم هنا بمعنى التخيل، وقد تخيل المحاسبي وأبدع في وصف رحلة الانسان بعد الموت، ووصف شعور أهل الجنة وأهل النار وما يلقون من سعادة وشقاء ونعيم وعذاب : " فتوهّم نفسك وقد صرعت للموت صرعةً لا تقوم منها إلا إلى الحشر إلى ربّك، فتوهّم نفسك في نزع الموت وكربه وغصصه وسكراته وغمه وقلقه، وقد بدأ الملَك يجذب روحك من قدمك فوجدت ألم جذبه من أسفل قدميك، ثمَّ تدارك الجذب واستحثّ النزع وجُذبت الروح من جميع بدنك، فنشطتْ من أسفلك متصاعدة إلى أعلاك حتى إذا بلغ منك الكرب منتهاه وعمَّت آلام الموت جميع جسمك، وقلبُك وجلٌ محزون مرتقب منتظر للبشرى من الله عزَّ وجلَّ بالغضب أو الرضا ".
هكذا يمضي المحاسبي بتكرار كلمة " فتوهم " في رحلة الخوف والرجاء والترغيب والترهيب حتى يبلغ المرء منتهاه في جنة أو نار، مما يذكرنا بجحيم دانتي في الكوميديا الإلهية التي جاءت بعد كتاب المحاسبي بما يقرب من خمسمئة عام.