قصخون رمضان

الصفحة الاخيرة 2024/03/17
...

محمد غازي الأخرس
والقصخون أيها السادة شخصية اختفت من حياتنا بهيئتها القديمة، لكنها عادت بملابس جديدة وأشكال تملأ حياتنا كل لحظة. تاريخيا ظهر القصخون بوصفه راوي حكايات شعبية، تحكي عن أبطال رشحت قصصهم من متخيل الشعوب، بدءا من عنتر بن شداد العبسي مرورا بحمزة العرب ثم الأميرة ذات الهمة، وليس انتهاءً بسيرة بني هلال ومغامرات سيف بن ذي يزن وأبو ليلى المهلهل. يروي المؤرخون أن راوي الحكايات، أو القصخون، البغدادي أو القاهري أو الدمشقي أو الحلبي، كان ينشط في شهر رمضان، ويتركز مسرحه في المقهى الشعبي الصغير  في (الطرف) أو (العكد) أو مقهى المحلة الذي يكون بالعادة أكبر، وتقام فيه جلسات سمر يومية، سواء كانت جلسات سماع القصص التي يرويها القصخون أو مباريات لعبة المحيبس التي لا تزال تلعب في بعض محلات بغداد. كان القصخون يحضر بدفتره الكبير ليجد أبناء المحلة بانتظاره، فيقص عليهم بأداء تمثيلي جميل، مستكملا ما بدأه في الليلة السابقة، وغالبا ما ينهي الراوي وصلته بحدث تتحفز له الأذهان تشوقاً، جاعلاً متابعيه ينتظرون اليوم التالي على أحر من الجمر. 

في مصر، لا يختلف الأمر كثيراً لكن الراوي هناك يقدم حكاياته على آلة الربابة، وغالبا ما يكون متحدراً من الصعيد بملابسه الشعبية وطريقة أدائه المبهرة، ويحتفظ التلفزيون المصري بجلسات مصورة خصيصاً لتوثيق هذا الفن كما في السيرة الهلالية وقصة (شفيقة ومتولي)، والأخيرة اشتهر بها الريس حنفي محمد حسن الذي يؤديها مع فرقته بطريقة رائعة، وبشكل شعري شبيه بالأبوذية العراقية من ناحية اعتماد الجناس في كثير من المقاطع الثلاثية. لكن القفلة الصعيدية تختلف عما هو عندنا حيث تتكرر عندهم عبارة بعينها، يتقاسم ترديدها المؤدي وفرقته التي ترافقه. في قصة (شفيقة ومتولي) تكون عبارة القفلة المتكررة : متولي، فيكمل الكورال: يا جرجاوي يا جرجاوي، والمعنى أن متولي هو بطل الحكاية وهو ينتمي لبلدة جرجا بمحافظة سوهاج، التي تقع في جنوب الصعيد، ولعلي عائد لهذه الحكاية في مقالة أخرى. 

المهم أن داعيكم منهمك الآن بفكرة ارتباط رمضان بالحكائين والرواة، كون هذا الفن هو الأمتع الذي اخترعه الذهن البشري، فبه يزجون الوقت ويقضون الليالي الرتيبة، فكيف في شهر رمضان الذي تكثر فيه الأواصر الاجتماعية فيحتاج الناس لفنون تجمعهم وتمتعهم فكان القص والحكي والسرد.  لماذا تذكرت (القصخون) والرواة والحكواتية اليوم؟ ببساطة لأنني أنوي تناول قصخونات عصر التلفزيون، وهي المسلسلات الدرامية التي حلت محل الحكواتية والقصاصين في الزمن الماضي. نعم، مع ظهور هذا الجهاز الممتع العجائبي، تشكلت الظاهرة ببطء، فارتبط شهر الصيام بالدراما حيث تبدأ المسلسلات وبرامج التسلية مما بعد الفطور لتستمر حتى السحور. ثم ترسخت الظاهرة ابتداء من نهاية السبعينيات لتتحول إلى علامة من علامات رمضان بحيث بات الشهر الفضيل موسما تتسابق فيه شركات الانتاج لطرح انتاجها. شخصياً يتخطر لي أن أول مسلسل تابعته بشغف وأنا في الحادية أو الثانية عشر من العمر كان رائعة طه حسين (على هامش السيرة) التي كتبتها للتلفزيون أمينة الصاوي وأخرجها أحمد طنطاوي، ما زلت أتذكر دهشتي وأنا أتابع قصة الرسول (ص)، ابتداء من حكاية جده عبد المطلب وأبيه عبد الله وعمه أبي طالب. بعد ذلك، كرت المسلسلات من (صيام صيام) إلى روائع أسامة أنور عكاشة ومحسن زايد وسواهما. 

ولي مع قصخون رمضان الحاضر وقفات أخرى فانتظروني.