زهير الجبوري
منذ عقود والتشكيلي العراقي فيصل لعيبي يقدم تجربته الفنية بالطريقة التي تكشف هوية مضمونها، ومن خلال التفرد بالأسلوب الذي عرف فيه "الأسلوب التعبيري المنفتح على واقعيات يومية وحياتية"، فقد كرّس هذا الأسلوب في قراءة بيئة معينة، أو بالأحرى قراءة بعض الأعراف والتقاليد المتوارثة، ربما لأنه ابن بيئة جنوبية - في الأصل - وبعدها عاش حياة بغدادية بكل تفاصيلها وطقوسها.
وعلى الرغم من وضوح أعمال الفنان داخل لوحاته "الانشاء" ألا أنها تطرح نفسها بطريقة درامية واضحة، وهي في الوقت ذاته تعبر عن أداءات مكرسة في مخيلته، تغري المتلقي في طريقتي "التخطيط" و"التلوين"، غير أن ذلك يأخذ على عاتقه قراءة الأمكنة بكل ما تحتويه من دلالات واضحة ومكرسة لـ "الإنسان البيئي"، وأعني الإنسان المشحون بتفاصيل حياتية معاشة، ولا ضير في ذلك لو كانت طريقة الأدائية فيها تفردا في ثيمات كل لوحة.
ولعل شحنات المكان وعبق الأزقة وتفاصيل الناس الكسبة "باعة الخضار والفاكهة" وأصحاب المهن الشعبية "المقهى وعامل البناء" و "عامل الحلاقة" و"الخياط" و"صياد السمك" وغيرها من المهن، يعبر عن مشروع ينفذ بين فترة وأخرى، بوصفها جزءا من تكوين اجتماعي لا يريد الابتعاد عنه، بل يكرسه بقوة الأداء وبرمزية الأفكار التي يصوغها بتعبيرية عالية.
وفي حوار صحفي، سُوئلَ لعيبي عن تجربته وما تحمل من تراث معرفي هو الوسيط بين الحداثة الفنية، أجاب أن "الفنان شاهد على عصره، وهذا ما أثبته تاريخ الفن، أعني الفنان الجاد، وليس من يمارس الفن كحرفة أو مهنة"، ولعل كلمة الجاد هنا تعكس مدى مسؤولية الفنان في تقديم هويته الفنية/ التشكيلية، الأمر الذي جعله يفكر في أبعاد كل لوحة أو تجربة يقدمها للمتلقي، فكانت جلّ أعماله تنطوي على هوية واضحة المعالم، تقترب بطريقة وأخرى إلى اطار البحث الأجتماعي/ الفولوكلوري/ الفني، عبر أدائية تشكيلية بَصَريّة، وهي هوية انتمت إلى عراقة جذورها وأخذت تكشف جدل الواقع العراقي وما يحمله من أثر كبير للحياة البغدادية وحياة المناطق الأخرى التي اشتغل عليها.
الفنان فيصل لعيبي، واحد من أهم الفنانين الذين يجيدون لعبة التلوين، فالألوان في لوحاته تبدو للوهلة الأولى "برّاقة"، حيث الألوان الحارة والمضيئة والبارزة، بالأضافة إلى القانية والباردة، تعطي انتباهة كبيرة، ورغم دقّة الأداء ووضوح الأشكال برمزيتها، الاّ إنها محسوبة وفيها غواية السؤال والهوية
معاً..!
فالألوان لدى الفنان تمثل تراتبية لمشروع شامل، مهما كانت زحمة استخدامها أو تراكمها دفعة واحدة، فهي قابلة للتلقي، متوازنة المنظور، تقبلها العين بمتعة واغواء، وهذا هو السرّ الذي جعل من جميع الألوان حاضرة بحرفنة كبيرة.
تمكن لعيبي من أبراز ملامح الحياة العراقية عبر قراءة الأعراف والتقاليد، كما ذكرنا، واستعادة المناخ التراثي والرافديني.
وقد أشار إلى ذلك العديد من النقاد والفنانين الكبار عن تجربته، كما تمثل تجاربه التي قدمها منذ عقود تجسيدا حقيقيا لجذره، وليس غريبا عليه حين نمسك في تجربته "بارتات" تشكيلية تعبر عن الواقع الشرقي العراقي من خلال ثيمة معينة في الحِرَفْ وفي الموضة وفي نوقوشات الأمكنة، وأحيانا نشاهد لوحات لنساء عراقيات بأساليب مختلفة "موديل"، أو "وجوه"، أو "موضات"، ثمّة رشاقة في كل شكل، تستنهضها الألوان بشكل ملفت للنظر.
أحسب أن الفنان لعيبي تمكن من تقديم أعماله بأداءات فنية عالية وبطريقته المعتادة، لكن ما لمست في بعض منها، أنه دخل منطقة أخرى في الموضوعات التي عرف فيها، كلوحاته التي حملت "الأغتراب"، وفيها تكون انشائية الرسم ذات دلالات سياسية، ولعل هذا الأمر يعكس قراءته للواقع التراجيدي المأساوي الذي عاشت فيه حياتنا في الآونة الأخيرة، لذا كان لها التأثير الذاتي في أخذ الموقف الثقافي الفني من خلال اللوحات التي رسمها وقدمها في المعارض الشخصية والمشتركة.