سجناء كهف افلاطون

ثقافة 2024/03/18
...

  حازم رعد

المتابع للخطاب الافلاطوني في محاوراته الفلسفية سيلاحظ من دون أدنى شك أنه اتخذ طريقين للاستدلال على صحة أفكاره ونظرياته التي قدمها: الأول اعتمد على سوق الأدلة والبراهين العقلية والوجدانية، والآخر اعتمد على ذكر بعض الأساطير واعتبرها دليلا على صحة مدعاه. وبعيداً عن الاسهاب والتطويل سنعرض واحدة من أهم الأساطير والمشهورة التي حاول من خلالها أن يحدث فرقاً للمتلقي بين لونين من الأفكار وطبيعة المعرفة التي يتوفر عليها الإنسان.
ذكرنا أن افلاطون في محاوراته الفلسفية حاول اثبات مجموعة أفكار تعتبر جوهر فلسفته، بل ورؤيته عن العالم والإنسان والوجود الإلهي، بدءاً من فكرته عن المثل والأنواع التي هي ماهيات موجودة في عالم مفارق لعالمنا، ومن الكثرة التي نراها في أشياء عالمنا إلا صور وظلال لتلك الأنواع «المثل العليا»، بل راح إلى ابعد من ذلك، حيث يرى أن المعرفة تذكر، إذ الإنسان في ذلك العالم المفارق كان يعرف كل شيء، ولكنه نسيه عندما تماس مع هذا العالم الأرضي، وما عليه إلا أن يدرس ويذاكر ليتذكر ما قد نسيه، وهذا معناه أننا أزاء عالمين الأول حسي، وهو عالم بحسب ما يرى افلاطون، ليس هو العالم الحقيقي، بل هو مجرد نسخة
مقلدة..
وآخر عقلي هو عالم الحقيقة، ومن خلاله تدرك جواهر الأشياء كما هي، حيث جعل افلاطون الإنسان في امتحان صعب إبان تلك الأفكار في معادلة، أما أن يتقبل بقاء ذاته ترزح تحت نير الوهم والزيف، أو يتقبل نسف العديد من المسلمات والقبليات التي نشأ ونضج على حفظها والتسليم لها، فالإنسان يعيش في عالم يعتقد بأنه هو الحقيقة لا غير، في حين أنه ليس إلا واقع من زاوية واحدة من المسألة، فهناك ما هو خارج هذا التصور الإنساني، لا يلحظه الإنسان لوجود معوقات وقيود تمنعه من ذلك. وقد اتبع طريقة وجد أنها تصلح كخطاب يثبت صحة أفكاره ومدعياته، وذلك فيما يعرف بأسطورة الكهف الافلاطونية.  
يتصور افلاطون جماعة من الناس يعيشون في كهف منذ نعومة اظفارهم «هم في الحقيقة مسجونون في هذا الكهف كما سنعرف ذلك»، في هذا الكهف فتحة تطل الى النور، يليها طريق «ممر» موصل الى ذلك الكهف، وهذه الجماعة اعيقت حركتهم بواسطة قيود واغلال بحيث لا يستطيعون رؤية شيء «لأنهم لا يلتفتون ولا يتحركون» سوى ما تقع عليه انظارهم، ومن ورائهم نار مشتعلة تضيء من موضع عالِ وهم لا يشاهدون إلا ظلالها تنعكس على حائط في باطن الكهف، وبين تلك النار والجماعة السجناء طريق مرتفع عليه جدار صغير يشبه مسرح العرائس المتحركة وعلى طول هذا الجدار الصغير قوم يحملون ادوات مصنوعة تشبه اشكال الناس والحيوانات، وغيرها مصنوعة من الخشب والحجر. ولما كان السجناء لا يستطيعون رؤية إلا ما هو أمامهم فأنهم لم يشاهدوا طيلة حياتهم في الكهف شيئاً غير الظلال المعكوسة على ذلك الجدار لتلك الأشياء المصنوعة من الحجر والخشب، وحتماً كانوا يعتقدون أن تلك الظلال المعكوسة حقائق، لأنهم لم يشاهدوا غيرها طيلة حياتهم. فلو فرضنا أن أحد السجناء استطاع التخلص من قيوده وخرج من الكهف وصعد الى الأعلى، فهو سينبهر بما سيشاهده خارج كهفه، بل وسيعجز عن رؤية الأشياء التي كان يرى ظلالها فقط «لأنه اطلع على الحقيقة»، بل أنه لو انبأ احد من السجناء الباقين، بأن ما يراه داخل الكهف وهم وباطل قد يتعرض للاتهام بالجنون أو أنه انحرف عن رؤية الحقيقة التي الف طيلة حياته الاعتقاد بها، بل قد يتعرض للانتهاك والاعتداء لأنه خرج عن السائد والمألوف.
في هذه الأسطورة يوضح افلاطون كيف أن لسيطرة الاعتياد والسائد قوة وتأثير لا يمكن التخلص منه بسهولة، وكيف أن طالب الحقيقة ومكتشفها قد يتعرض للخطر بسبب أنه استطاع أن يفرق بين الوهم والزيف وبين الحق والصواب.
لم يكن هؤلاء السجناء إلا تعبيراً رمزياً معبراً عن حالة الناس، وهم مغلولين بقيود العادات والمألوف وتراكمات عشعشت في الاذهان جيلاً بعد آخر فصار من العسر بمكان الافلات منها أو حتى محاولة التفكير بأنها مصفوفات من الوهم والزيف.
الناس امام هذا الركام الكبير من الأفكار السلبية التي تدعوه للتقليد الأعمى واتباع قيم البداوة وثقافة الخضوع امام سلطة الرأي العام مجرد سجناء لا قيمة لهم، إذ الإنسان الذي لا يعيش أفكاره ولا يحرك عقله في تناول الواقع بحثاً ونقداً ومراجعة هو بائس وتائه بين الحشود، لا هوية له، ضائع بين ركام من الجماجم والأجساد الميتة معنوياً، وقد برع افلاطون في تصويره لحالة اولئك المساكين بهذا المشهد الدرامي في محاوراته.
فالسجن «الكهف» يقابله العالم المنظور «حياتنا التي نعيشها، والنور الذي ينفذ إلى الكهف يمثل ضوء الشمس، وأما صعود ذلك السجين الذي استطاع التخلص من القيود، فهي تمثل رحلة صعود النفس الى العالم المعقول لرؤية الاعلى والعالم الحقيقي،
وإذا كان سجين الكهف «مثال الفيلسوف» لم يبصر العالم الحقيقي، إلا بعد أن فك قيوده وخرج من الكهف، فأن التفلسف «التفرد بالوعي الحقيقي، وأعمال العقل لن يتحقق الا لما يتحرر الإنسان من التفكير على وفق مجال الحس «الذاكرة الجمعية والخضوع لسلطة العادات والمألوف» ليتحول الى التفكير على وفق حدود الفكر والتعقل.
فهذا المثال الذي يضربه افلاطون يعبر بدقة عن حياتنا البشرية التي نعيشها، وكيف أن الأوهام والخيالات تسيطر علينا وتشكل أغلالاً تعيقنا عن الحركة، وعن رؤية الحقيقة. والكهف هو سجن العادات والتقاليد وأراء الفاعلين الاجتماعيين والسلطة التي تسيطر علينا، وتصوب عقولنا بنظرات أحادية الاتجاه لا ترى إلا زاوية واحدة تريدها لنا السلطة وأراء الذاكرة الجمعية.