ياسين طه حافظ
تاريخ الإنسان تاريخ قاس وصعب مرْ. لكن إصرار الإنسان على العيش جعله يحتمل المشقات والمخاوف وحتى الموت ليقتات ما يجعله حيا. جعله ذلك يبحث في التراب عن الجذور التي يمكن أن يؤكَل لبُّها أو الديدان أو الطبقات الطرية القابلة للهضم خلف لحاء هذا النوع من الشجر وذاك النوع من الأدغال.نعمة هي كبرى اليوم، أن نجد وراء بيوتنا مخازن فيها أطعمة مختلفات ومنوعة المذاقات وتتيسر اللحوم كما تتيسر الثمار الحلوة الطازجة والجافة وإلى جوارها أنواع العصائر، وما نحتاج من لبن وأجبان ودواجن جاهزة للطبخ، فلا تبحث في الغابة أو في المناقع عن قطعة لحم أو ثمرة أو عشب يؤكل.
هو التقدم البشري، وهي الحضارة وهي عظمة الإنسان الذي حقق ما ننعم به اليوم من طعام وسكن وتدفئة.
لكن هذا التقدم مثل أي مكسب لم ينجُ من التسلط عليه، فازدادت مصادرته والتحكم في مصادره.
خضع مثلما خضعنا لسلطة الرساميل وأخطبوط العاملين لها.
ووصولاً إلى الأفضل أو الأكثر تحملا للجفاف أو الأصعب على استهلاك القوارض والفطريات، أو الأغنى بروتينا وماشابه، خضع طعام الإنسان، ومنها خبزه قمحاً وأرزاً ودُخنا وذرةً، ثم خضع زرعه قطنا...، خضع كل هذا للهيمنة عليه والتحكم فيه.
أيٌّ من مصادر غذائنا الأساسية لم يسلم من تدخلهم الكيميائي، أو مما يسمى تعديل جيناته الوراثية أو من التدخل في أعلاف حيواناته ودواجنه لزيادة لحومها أو لتسريع نموها أو لاكثار بيضها؟
يبدو هذا جيدا لفقر العالم أو لتلافي تصحر المساحات من أراضيه والمجاعات التي تحل في قاراته.
جيد هو أن يجد الناس طعاما وأن نزرع الأرض اليباس، لكن هل فكرنا بما تفعله المختبرات، بما تفعله المؤسسات المرعبة التي تغير المورثات؟
هي تحدث تغييرا فيها لهدف فتظهر متغيرات أخرى مجهولة حتى عنهم! ولا يقف فعلها عند هذا، فهي تتغير وتتطور أشكالها في أجيالها التالية، ولا أحد يدري ماذا تفعل بالناس والنبات وبالطبيعة أو البيئة التي عرفتنا الاف السنين وعرفناها!
بسبب من هذا وغيره، أكثر أو اقل سوء وضررا، برز اتجاه في التفكير وفي النظر إلى الحياة على الأرض ومصيرها.
فظهر عدد من أصحاب الفكر الإنساني، الأخلاقي، يعرفون ويقدرون مصادر التهديد ويحددونها بعدد معروف من الشركات الكبرى التي توظف العديد من العلماء والصناعيين للتأثير في مصادر الغذاء وفي الترويج للذي يصنعونه.
لقد تدخلوا في البذور وفي استخراج المعادن ومنها النفط الاحفوري وما ينتج عنه من غازات التدفئة، التي تسهم في تدمير التوازن البيئي.
هذه الشركات بما توصلت اليه مختبراتها صارت تتحكم في «نوع ما نأكله» وما «نشربه» وما «نتنفسه».
هم يدمرون التوازن ويدمرون الطبيعة نفسها وشراكة الإنسان والأرض واحيائها، يسممونها، نباتاً وحشرات وفطريات فنعرف بعض تأثيرات ذلك ونجهل الكثير فلا يرى الناس إلا آثاره على تنفسهم وأعصابهم
وخلاياهم.
لا نعرف إلا ما تفعله المبيدات وهذه بعض قليل من ذلك.
بعض هذه الشركات اشترت العلماء المتخصصين واشترت ساسة ورجال قانون واشترت، كما فعلت مونتسامو، شركة المناخ وشركة بيانات التربة لتضيع عن الناس الحقائق.
ففي 2016، كما يذكر ذلك كتاب مهم للعالمين الهنديين فاندانا وكارتيكي شيفا، الذي أفادنا بما ذكره من رقام واسماء الشركات، وقد جاء فيه أن شركة مانتسامو حشدت 107 علماء من الفائزين بنوبل بينهم عالم متوفى، وضعوه خطأً هو «الفريد جيلمان» لدعم نتائج تقنيات الكائنات المعدلة وراثيا ومنها ما اتضح فشله .
إن كتبا خيرة كثيرة صدرت في هذا الشأن منها كتابنا سالف الذكر وكتب تماثله صدرت في بريطانيا والولايات المتحدة وأوروبا، فضلا عن البحوث والدراسات الشخصية والخاصة والتي ترعاها الجامعات أو بعض المؤسسات المعنية.
عموما هو اتجاه نضاليّ لحماية الأرض واحيائها ولدفع الكارثة عن الأرض إذ بدأ فعلا المليارديون يفكرون بالسكن في كوكب آخر وعيونهم تتجه إلى المريخ.
لكنهم سيدمرون كل شيء قبل أن يغادروا. نعم هم وعلماؤهم يجرون تجارب على البذور والأجنة وفي المناخ وعلى الأعاصير، لكن لا أحد معني بالاثار المحتملة والخارجة عن هدف التجربة وعن سيطرتهم وعن علمهم.
نحن في العراق نشهد مذابح شنيعة للنخيل والأشجار المعمرة والشجيرات والأدغال والحشائش البرية، ونشهد تجريفا بلا رحمة لالاف الدوانم التي إن لم تكن مغروسة أشجارا، فهي أدغال ونباتات متنوعة نعرف اسماء بعضها، ونجهل العديد منها ونتلف خلال ذلك حيوانات وفطريات وديدان نجهل أهميتها للأرض وللتوازن البيئي.
وكلها تشكل تنوع الحياة الطبيعية.
إن القضاء على صنف منها أو على بعضها يبدو غير مهم وضرره لو يعلمون كبيرا، وعواقبه لا تظهر فجأة ولكنها تظهر يوما بعد يوم.
هو له منافع نجهلها.
لابد من ذكر أن كثيرا من النباتات التي نجهل، هي مما يؤكل ويتغذى عليه الناس في الارياف البعيدة.
ونحن نعلم أن نباتا نجهله يؤكل في الجنوب وآخر نجهله، مُغذٍّ ويأكله الناس في بغداد أو في الشمال وكذلك كثيرٌ مما في الأنهار وضفافها وفي الأهوار وعلى سفوح الجبال، يصلح غذاء وبعضه يصلح دواء وبعضه لتقليل ضرر حشرات لها منافعها إن لم تطغَ أو تكثر.
للحياة أسرارها ونظامها.
الخبز الذي نأكله وضمنه كل غذاء نقتات به، يستوجب يقظة أخلاقية وعلمية ووقفة نضالية ضد ما تفعله الشركات الكبرى في الحياة والأحياء، لنوقف ما يهدد الأرض من كوارث أو كارثة قاضية.
مؤسف أن نقول بتشاؤم مؤلم: إن ما يبدو كثير الانتاج وسينقذ شعوبا من المجاعات إنه أيضا يسمم ويدمر الأرض وسلالات البذور الطبيعية والناس، نتمنى أن تكون البحوث خيّرة نافعة ولكن يجب أن تكون نظيفة، وأن يكون الهدف هو فعلا إطعام الجياع لا زيادة الأرصدة والحسابات.